السودان وفلسطين .. سيرة وفاء وفداء
سلف أن كتبت عن " الضابط السوداني الذي دافع عن حدود قطاع غزة " ، ومحور المقال أن ذلك الضابط في الجيش المصري ، حين كانت مصر والسودان دولة واحدة ، حضر ترسيم حدود قطاع غزة في مستهل 1949 الذي قامت به لجنة الهدنة التابعة للأمم المتحدة ، وأنه كان يثور ويحتج كلما اتجه الرسم غربا ناحية القطاع لما فيه من إنقاص لمساحته ، ويصر على اتجاهه شرقا لتزداد تلك المساحة . واليوم ، في جو نكبة التطبيع الثالثة بين إسرائيل والسودان بعد نكبتي تطبيع الإمارات والبحرين ، ونكبة تطبيع السودان أضعافهما حرقة وخسارا لنا ؛ أرجع إلى الحديث عن علاقة السودان وفلسطين التي ربما يحسبها بعض الناس واهية لتقاصي البلدين الشقيقين جغرافيا غافلين عن كون مصر كانت دائما جسر الوصل بينهما .
وفي فلسطين ، وفي قطاع غزة ، آلاف المواطنين من الأصول السودانية ، والشعبان بدءا ومنتهى جزآن من أمة واحدة لا يقطع تلاحم أجزائها تباعدها الجغرافي المترامي 12 مليون كم مربع هي مساحة الوطن العربي . نبدأ بحرب 1948 . في تلك الحرب التي ارتجلها العرب ارتجالا طائشا ، ولوحدة مصر والسودان ، تألفت القوات المصرية التي دخلت فلسطين من مصريين وسودانيين ، وألحق بها فيلق من الجيش العربي السعودي من 3200 جندي . وفي مقال مؤثر تحدث الكاتب الفلسطيني فايز أبو شمالة عن تحرير الجنود السودانيين عدة قرى فلسطينية من القوات الإسرائيلية ، بينها بيت داراس قرية الكاتب . وذكر الفاجعة التي ضربت أولئك الجنود الشجعان حين أرسلوا إشارة إتمام المهمة البطولية للقوات التي يتبعونها ،فانهالت عليهم قذائف مدفعية تلك القوات ، وقتلتهم في مجزرة مؤلمة غريبة وجديرة بالتحقيق حتى بعد ذلك الزمن البعيد . ومن قصص تلك الحرب الخاصة بالجنود السودانيين قصة جندي رواها منذ أربعة أعوام لصحيفة عربية . يقول إن قيادتهم أنزلتهم في جنوب فلسطين وتركتهم لا يدرون ماذا يفعلون ولا إلى أين يتجهون في مناطق يجهلونها ، فوقعوا في أسر القوات الإسرائيلية . وأثناء جلوسهم في مكان الأسر الذي نقلوا إليه أمرهم المسئول عنهم بالوقوف ، فوقفوا كلهم ، وأبى هو الوقوف ، فسأله المسئول ، ويذكر الجندي الجملة العبرية ، : " لاما آتا لو عوميد ؟! " أي ( لماذا لا تقف ؟! ) ، فرد محتدا : " لن أقف " ، ولم يقف . وخضع المسئول ل " القفلة " السودانية التي هي علامة مميزة للحمية السودانية . وحين سيطرت القوات المصرية في تلك الحرب على مستوطنة كفار داروم شرقي مدينة دير البلح كان أول الواصلين إليها جنديا سودانيا استشهد لحظة وصوله بانفجار لغم فيه . وتُعلَن الهدنة بين مصر وإسرائيل ، وتقيم القوات المصرية مواقع لها على حدود قطاع غزة من شماله إلى جنوبه ، وتسمي أحدها "الأُبيِض "على اسم مدينة الأبيض السودانية . وتولى الجنود السودانيون من فرقة الهجانة حراسة شاطىء قطاع غزة ، ولازال جزء منه يسمى " السودانية " منسوبا إلى أولئك الجنود الذين كان منهم والد الصحفي السوداني طلحة جبريل . ويتردد اسم " السودانية " كثيرا في أخبار قطاع غزة لكثرة إطلاق البحرية الإسرائيلية نيرانها عليها . وفصول سيرة السودان وفلسطين ، سيرة الوفاء والفداء ، لا تنتهي . كتبت عن " الضابط السوداني الذي دافع عن حدود قطاع غزة بصدر مشروح ، وأكتب اليوم " السودان وفلسطين .. سيرة الوفاء والفداء " بصدر مجروح بعد تطبيع عسكر السودان مع إسرائيل مخالفين إرادة شعبهم المسلم العروبي الحر ، ونقول : " حسبنا الله ونعم الوكيل " في حكام عرب صُنِعوا على أعين أعداء الأمة ، ويسبقون هؤلاء الأعداء في الفتك بها . وايم الله إني لموقن بما في البيتين التاليين :
" يا أمتي والحزن يحرق دمعتي * ويلفني بغمامة سوداء "
" مازلت أؤمن أن نصرك قادم * مهما بدا في الجو من أنواء " .
وسوم: العدد 900