أمريكا تحتل فلسطين
أن يقوم وزير خارجيّة أمريكا بومبيو بزيارة مستوطنة احتلالية مقامة على أراض مدينة البيرة في الضّفّة الغربيّة وعلى مرمى نظر من مقرّ الرّئاسة الفلسطينيّة، و"مستوطنة ترامب" في الجولان السّوريّة المحتلّة، وأن يقوم بعض من مرافقية بزيارة بؤرة استيطانيّة لبلدة سلوان المحاذية لمحراب المسجد الأقصى، في الأسابيع القليلة المتبقيّة من فترة رئاسة ترامب الذي خلعه شعبه في الإنتخابات الرّئاسيّة التي جرت في الثالث من نوفمبر الحالي، يذكّر بالسفير الأمريكي فريدمان الذي يسكن في مستوطنة احتلاليّة في الضّفّة الغربيّة المحتلّة، ويؤكّد من جديد أنّ الدّولة الأقوى والأكثر سطوة في العالم تواصل حربها المفتوحة على فلسطين وشعبها بشكل خاصّ وعلى العرب والمسلمين بشكل عامّ. ويؤكّد من جديد أنّ أمريكا شريك أساسيّ لدولة الاحتلال في مصادرة الأراضي العربيّة المحتلة، بل هي المموّل الرّئيسي للإستيطان، وإن كان هناك مساهمة للبترول العربيّ في هذا التّمويل. كما يؤكّد من جديد للمصابين بالعمى السّياسيّ من العرب المتصهينين، أو بمن ارتضوا بأن يكونوا "حطّابين وسقّائين" في خدمة الصّهيونيّة العالمية حفاظا على عروشهم الخاوية، بأنّ أمريكا في ولائها وتبعيّتها لإسرائيل تدوس على القانون الدّوليّ وعلى قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، وعلى اتّفاقيّات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكريّ، وعلى لوائح حقوق الإنسان، وعلى حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها.
وهذا ليس جديدا على السّياسة الأمريكية بخصوص القضيّة الفلسطينيّة، فالكونغرس الأمريكي اتّخذ قرارا بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 1995، ونفّذ القرار الرّئيس الأرعن ترامب في 6 ديسمبر 2017، وتبعها بالإعتراف بالسّيادة الإسرائيليّة على الجولان السّوريّة المحتلة. وما صاحب ذلك من إغلاق سفارة منظّمة التّحرير في واشنطن، وقطع المساعدات الماليّة عن السّلطة الفلسطينيّة، وعن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيّين، وغير ذلك، لتعلنها أمريكا صراحة في 28 يناير 2020 شطبها لفلسطين وشعبها من الوجود فيما سمّوه "صفقة القرن"؛ لتصفيّة القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ الذي تتخطّى أطماعه حدود فلسطين التّاريخيّة. وكلّ هذا وغيره يندرج في إطار تنفيذ المشروع الأمريكيّ "الشّرق الأوسط الجديد" الذي يرمي إلى إعادة تقسيم الشّرق الأوسط إلى دويلات طائفيّة متناحرة، والذي مهّدت له أمريكا باحتلال العراق وتدميره وهدم دولته عام 2003، وقتل وتشريد شعبه، وتقسيم السّودان، وشنّ حرب على لبنان في العام 2006 للقضاء على حزب الله! وافتعال ما سمّوه الرّبيع العربيّ، والذي تمخّض عن شنّ حرب على ليبيا، واغتيال الرّئيس القذّافي، وإدخال ليبيا في حرب أهليّة تغذّيها القوى الإمبرياليّة حتّى يومنا هذا، ثمّ شنّ حرب كونيّة وحشد قوى الإرهاب العالمي من القاعدة وداعش وجبهة النّصرة وغيرها لتدمير سوريّا وإضعاف جيشها، وقتل وتشريد شعبها، وتخريب الاقتصاد اللبناني من خلال وكلائها فيه وفي المنطقة العربيّة والإسلاميّة. وما تبع ذلك من حرب ظالمة على المستضعفين في اليمن لتأمين السّيطرة الأمريكيّة الإسرائيليّة على مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وإذا كان وعد بلفور في العام 1917م قد مهّد للسّيطرة الأوروبّية على المنطقة العربيّة واستعمارها قد مضى عليه قرن من الزّمن واستنفذ مهمّاته، فإنّ المشروع الأمريكيّ "الشّرق الأوسط الجديد" يسعى لبسط النّفوذ الأمريكي الإسرائيلي على الشّرق الأوسط لقرن آخر على الأقلّ، وسيدخل المنطقة في صراعات وحروب لا أحد يعلم متى ستنتهي.
وعندما وصل ترامب إلى الرّئاسة الأمريكيّة عام 2016 استولى بطرق مختلفة على ترليونات الدّولارات من مال البترول العربيّ، وأجبر كنوزه الإستراتيجيّة في المنطقة على دفع تكاليف القواعد العسكريّة الأمريكيّة وتمويلها بحجّة حماية الأنظمة الحاكمة التي أوكلوا إليها القيام بحروب أمريكا في المنطقة، ثمّ قاموا بشيطنة إيران ومحاصرتها وافتعال مشاكل بينها وبين جيرانها العرب، للحدّ من قدراتها ولتغيير الأوليّات في المنطقة، ونقل العداء العربي من اسرائيل إلى إيران، ثمّ الضّغط على دول عربيّة وفي مقدّمتها دول الخليج لتطبيع علاقاتها مع اسرائيل، لدرجة تخطّت التّطبيع السّياسي إلى تحالفات عسكريّة ومخابراتيّة، للإصطفاف في مواجهة "الخطر الإيرانيّ المزعوم"! ومن المضحك المبكي أن تصف أنظمة عربيّة قرار التّطبيع المجّاني مع اسرائيل في ظلّ مواصلتها احتلال الأراضي العربيّة بأنّه "قرار سياديّ"!
ومن اللافت اجتماع وزير الخارجيّة الأمريكيّة مع نتنياهو ووزير خارجيّة دولة عربيّة في القدس يوم أمس، ممّا يعني أنّ "القرارات السّياديّة" لدول التّطبيع العربي تشمل اعتراف المطبّعين بالسّيادة الإسرائيليّة على القدس قبلة المسلمين الأولى، ومعراج رسولهم عليه الصّلاة والسّلام ومهد السّيّد المسيح عليه السّلام.
إنّ أمريكا التي تتعامل مع اسرائيل كقاعدة عسكريّة أمريكيّة متقدّمة في المنطقة، تعمل على أن تحلّ اسرائيل مكانها في السّيطرة على المنطقة برمّتها للحفاظ على مصالحها، من خلال عرب ارتضت أنظمتهم الضّعف والهوان والتّبعيّة. وشعار أمريكا وحليفتها
اسرائيل ما لا يمكن حلّه بالقوّة يمكن حلّه بقوّة أكبر. فهل تأتي زيارة بومبيو في أواخر عهد ترامب لإسرائيل وبعض دول المنطقة للتّنسيق لحرب إقليميّة لحسم الأمور لصالح اسرائيل؟ فكلّ الاحتمالات قائمة. وما المراهنون على انتخاب بايدن للرّئاسة الأمريكيّة إلا خاسرون، فأمريكا دولة تحكمها مؤسّسات. ومن يريد الخلاص من التبعيّة فليراهن على شعبه وإلا فإنّ مصير حكمه إلى زوال على أيدي أسياده بعد أن تنتهي صلاحيّته، والحديث يطول.
وسوم: العدد 903