الغرباء المرابطون
بدأ الإسلام غريبا في عصر الجاهلية الأولى ، وهاهو يعود غريبا كما بدأ ، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . وغرباء هذا العصر هم أهل الثبات على الحق ، وهم أهل الصبر على المكاره ، وهم أهل الأمل بالله الكريم الذي لن يخيِّب رجاءَهم . فلا هم يبكون ولا ينوحون ، ويخيل إليك أنهم لم يصبهم من الظلم أقساه ، ومن البطش أشدَّه ، ومن الحرب على دينهم مالم يكن بالحسبان ، وعلى الاعتداء الصَّارخ الهمجي على شعوبهم الآمنة ، تلك الشعوب التي أشجاهم ما أصاب أبناءَها من الويلات ، فهي تعيش القلق ومفرداته المتنوعة ، وهي التي آلمتْها حرارة الدموع ، و تدفق الدماء من صدور الناس ... تلك الصدور الطاهرة التي استباحها السفهاء الوافدون من كهوف الأحقاد ، ومن وديان الأودية المنتنة المحفوفة بالمخاطر في ليل الخطب الطويل . ولعلها من صور ظلم الناس للناس ، ومن تجرُّؤ قانون اللامبالاة الذي لم تُدرِج ضلالاتُه سطرا واحدا من هَدْيِ النبوَّة ، ففقد هذا القانون الشيطاني كلَّ معنى من معاني الإنسانية التي لبسها زورا في حياة البشر ، وأزجى تلك الضلالات إلى مستنقعات القيعان التي لاتعيش فيها الرحمة ، ولا يستأنس بها الإخاء ، فكان ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وكان الأخذ بالمذاهب الضالة المضللة ، وكان تعاظُم الآثام والكبائر ، وكان الاستكبار الأجوف الذي أوقع المجتمعات في سوء العواقب ، وكان الأهم من كل ذلك أن الإنسان نسي ربَّه ونسي أنه سيؤوب إلى الله فيُحاسب على ما فرَّط في جنب الله ، ونسي وعدَ الله الذي لايُخلف الميعاد ، وتناسى بشريات النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ، وهي بشريات تؤكد على ماوعد الله به عبادَه المرايطين في أصقاع الدنيا ، رغم شراسة العدو ، ووقاحة القريب من أبناء جلدتنا ، ورغم قوة خروج هؤلاء وأولئك من دائرة الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) رواه مسلم . فيومئذ لاتنفع الملامة ولا تجدي الآهات والتوسلات لأنه كما قال المولى تبارك وتعالى : (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) 46 / فصلت ، وهل يبقى للمعذرة معنى أو قيمة بعد نزول الوحي من السماء على مئات من الأنبياء والمرسلين على مدى الحقب التاريخية !!! قال تعالي : ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) 52 / غافر . الذكرى تنفع ــ اليوم ــ المرابطين على ثغور الإسلام ، ولا يستسيغها أعداء الإسلام ، فخيارهم اليوم هو هذه العنجهية ، وهذه الفرعونية المتسلطة على رقاب الناس بالقهر والإرهاب ، والناس ملُّوا وطأة الإذلال والقهر ، وما عانوه من آلام فباتوا يخرجون من سراديب الخوف والذعر ، ومن بين حطام ماكان يكلؤهم من حرِّ الصيف وزمهرير الشتاء ، بعد أن فقدوا كل غالٍ ومقدس ، واستحمت أجسادهم بوهج العذابات المريرة ، والذكرى ــ يوم الحشر الأكبر ــ لن تنفع هؤلاء الوحوش وهم يفترسون اليوم طهارة الإنسانية ، وجلال القيم الأخلاقية . ويوم الحشر : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، وهذا اليوم ليس ببعيد ، وليس للطغاة الظالمين من مفر ولا حميم ولا شفيع ، إنه يوم العدل المطلق : ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) . فتبًّا لهؤلاء الغافلين من أهل الباطل إنهم : (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
في هذا العصر ... وفي هذه الأيام تتوالى أحداث جِسام ، هزَّت الضمائر الحيَّة في مجتمعنا الإسلامي خاصة ، فآبت نفوس إلى بارئها ، وتابت من تفريطها في حقوق الله عليها ، واستدركت مافاتها من شرف الدفاع عن الإسلام ، وعلمت بأنها مكلفة بحمل الدعوة المحمَّدية ، والجهاد عن حياضها لدفع العدو الغشوم ، ومنازلة المتربصين بالأمة ودينها ، وتقدمت الصفوف كتائب الإرث النبوي ، عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبد خيرا عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه ) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، ومن خلال هذا الفتح الرباني على أبناء الأمة ، خرجت تلك الكتائب ، ومضت على الدرب غير آبهة بشدة الأعاصير وجبروت أعداء الشعوب ، لأنهم غثاء مهما عربدوا ومهما انتفشوا ، فصحف التاريخ تؤكد على حتمية زوالهم ، وسيذهبون جفاء لاتبكي عليهم الأرض ، ولا تنعاهم السماء ، فهم أهل المثالب والمنكرات والضلالات ، المفسدون في الأرض الذين تتصدى لهم الشعوب في كل حارات المرابطة ، فهو النفير العام لإعادة مجد الإسلام بأسباب النصر من تقوى وأعمال صالحات ، ومن جهاد لأعداء الشريعة الإسلامية ، فالجهاد كما هو معلوم سنام الإسلام ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لولا أن أشق على الناس ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله أبدا , ولوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ) فالشعوب الإسلامية ظُلمت كثيرا من أعدائها ومن طغاتها والمتربصين بها ، وقد أمر الله بهذا الجهاد ( وقاتلوا ... ) ، و يقول الله تعالى: ( أُُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) 39 /الحج ، يقاتل المسلمون أعداءَهم لإقامة حكم الله في الأرض ، وليشيعوا السلام والمحبة والعدل والأخلاق والفضائل والتعايش في المجتمعات ، وليقوم أهل الخبرات والقدرات بإدارة شؤون الناس ، ولينهض العلماء بواجباتهم تجاه دينهم وشعوبهم ، في حارات المرابطين ــ اليوم ــ حركة محمودة بالعودة إلى الله ، وعطاء ثرٌّ مما عند المسلمين من غالٍ ونفيس في سبيل الله ، وهؤلاء لهم البشرى من الله ، ولن يضيِّعَهم ربُّهم جلَّ وعلا ، فاستخلافهم في الأرض قدر الله الماضي رغم الظالمين ، يقول الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) 55 / النور .
أمر الله الأمة بالجهاد ، وقاد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغزوات مجاهدا في سبيل نشر التوحيد والخير والرحمة بين البشر ، ولدفع ضرر الأشرار والمفسدين من أتباع الشيطان ، ودرء الفتن التي يأتون بها إذا خلت الأجواء من المرابطين المجاهدين ، يقول الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) 193 / البقرة . فكان الجهاد بابا لعزة الأمة ورفعتها ، وموئلا للأمن والإيمان ، وبرهانا على صدق اليقين ، يقول تعالى : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) 78 / الحج ، ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( من مات ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق ) ، فقيام الإسلام يكون بقيام الجهاد ، وليس لمؤمن بالله ورسوله أن يخشى الموت في سبيل الله ، وهو يعلم علم اليقين أنه يقاتل أعداء الله ، ويناجز أعداء الشعوب ، وأولئك الأعداء مهما كانت قوتهم فإنهم يقاتلون تحت راية الطاغوت والطغيان ، فليس لهم من سند ، يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) 76 / النساء ، فأنَّى للطاغوت أن ينتصر أو يَسلَم من الألم الذي يشعر به من وطأة أنفاس المرابطين المجاهدين . لن ينتصر الطاغوت ولن يدوم للطغيان حكم ، إن يقظة المسلمين اليوم هزَّت أركان الطغاة أعداء الإسلام ، وإن عودة الناس إلى حياض التوبة والتقوى والجهاد أوهنت قوتهم وجعلتهم يألمون ، وقرَّبتْهم من مصيرهم المحتوم الذي لابدَّ منه بمشيئة الله ، إن بشائر النصر نلمحها على وجوه الأطفال الذين روَّعتهم مشاهد القتل والتدمير ، وأصوات الانفجارات ، ونلمحها على وجوه الأبطال المرابطين المجاهدين في كل الحارات ، أولئك الأبرار الذين أفرحوا المسلمين بهذا الجهاد وبهذا الخير ، يقول الله تعالى : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) 195 / آل عمران ، يقول مالك بن دينار رحمه الله : ( إنَّ الأبرارَ لتغلي قلوبهم بأعمال البِرِّ ، وإنَّ الفجار لتغلي قلوبهم بأعمال الفجور ، والله يرى همومَكم ، فانظروا ماهمومكم ؟ )
وسوم: العدد 903