شخصية الترابي الآسرة
أريد أن أعترف قبل أن أمضي في كتابة هذه المقالة بأني قد عجزت العجز كله في معرفة كنه الأسباب التي جعلت من الدكتور الترابي رحمه الله شخصية قرع صيتها أصداء الزمان، هذه الشخصية التي تحتاج إلى ألوان من البحث والاستقصاء، وإلى كثير من التحقيق والاستقراء، حتى نحصي نضارها الفكري، ونلم بشيء من جزئيات روحها الشفيفة، هذه الروح صاحبة الشعور الدقيق، والعواطف الحادة، والمزاج المضطرب، لا سبيل إلا للإمعان في الاستمتاع بقراءة روائعها، والإحاطة بأسرارها في رضا واغتباط، أو في شك وارتياب، وأن نبتعد عن دمغها بالألفاظ الجارحة العجولة، فأصحاب هذا النهج لا يشعرون بالأثر العظيم الذي خلفته هذه الروح سلباً أو إيجاباً في صعيدنا الذي يعيش في سعة من الكدر والشقاء، وأكاد أعتقد أن الدكتور الترابي الذي أنفق عمره في مجالدة الاستبداد وصنعه كان يبدع في كل وقت، ويومض في كل حين، نتاجاً لآراء لم يكن يرى بأساً بإذاعتها وإظهار الناس عليها، وهذا مرده في وجهة نظر الباحث للحرية التي توثقت صلته بها في أكاديميات الغرب، فهي التي جعلته لا يحس شيئاً من هذا التردد والحياء الذي يشقى به من عاش طوال عمره في أرض النيلين، ولعلي إذا أردت أن ألتمس مصدر السحر في شخصية الترابي فلن أكابد في سبيل ذلك مشقة ولا عسراً، فالدكتور الترابي لو تتبعنا ما كان يلقيه من ضروب الكلام من دين وفكر وسياسة، لوجدنا بعض مستمعيه ينكرون عليه بعض النبو والاعوجاج في أحاديثه التي يصر هو عليها، يجد في سبيل ذلك متعة لا شك فيها، ولذة لا تضاهيها لذة، لثقته المفرطة في رجاحة عقله، وسعة ثقافته، واعتقاده الجازم فيما يطرحه من قضايا، نجده يختصم مع مخالفيه أشد الخصومة وأقساها دون أن تعتري دواخله سخائم الحقد، وغوائل الضغينة، فحسب هذه الخصومات أنها ارتقت بالعقل البشري، وأنشأت للقارة العجوز حضارة ورقي أجبر حتى الموغلين في الجحود والنكران على الثناء عليها والإعجاب بها. لقد استقر في نفوس هذا الجيل تفرد الشيخ والمعيته، كما استقر ذلك أيضاّ في نفوس الأجيال التي سبقتهم، لأن صاحبها قد ارتقى بذاته وسما بها إلى أعلى مراتب المجد والنباهة، جمعت هذه الشخصية كل هذا، وأثرت في نفوس محبيها من كل هذه النواحي، فشخصية الشيخ التي يكون الناس أشد فرقة وانقساماً حيالها ما بين محب ومبغض، كانت مثار دهشة وإعجاب الفريقين في شتى تقلباتها وكانت ترضي القلب، وتقنع العقل، وهي قانعة هانئة، أو مضطربة ثائرة، وبما أني لا أستطيع أن أتخذ مقياساً لافتنان السودانيين أو ما عداهم من شعوب وقوميات لشخصية هذا الرجل التي لا يحصي لها عد أو يسبر لها غور، سينتهي إلى مدى لا يستطيع أن يتجاوزه، فهو حتماً سيقول في الشيخ مثل قول الناس فيه، ويحكم عليه بمثل حكمهم عليه، دون تعسف أو محاباة. فالشيخ الذي نال من الحكومات المتعاقبة على السودان أكثر ما نال غيره من النظراء من نُكر أو صفاء، أطال الناس في لوذعيته وحدة ذهنه، حتى أصبح تناول هذا الأمر حديثاً معاداً يثير الرتابة والملال.
ولكن الحقيقة التي بلغت هؤلاء جميعاً، واستقرت في نفوسهم، أن ذكاء الشيخ قد ورطهم في عقابيل سلبتهم حريتهم، واستنزقت مواردهم، وأخضعت ثرواتهم لأفراد يتصرفوا فيها كما يحبون، ويعربدوا بها كما يشتهون، وما زال الناس تحاول أن تفهم، ويدعوا غيرهم إلى الفهم والاستقصاء، عن فقه الشيخ الذي كان يعظهم ويرشدهم إلى الخير والصلاح، ورغم أن نصحه وهدايته لا تخلو من إتقان، ولا تبرأ من إحسان، إلاّ أن فقه الشيخ أمسى منبت مقطوع الجناح لا يحلق في عنان السماء بعد أن هوى به صاحبه إلى الأرض، والشيخ كان يحس كل ذلك ويلتفت إليه ويعتذر عنه في استحياء، ولقد تعود الشيخ على الجفوة من السواد الأعظم من بني جلدته، وأغلب الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان يستقبل كل هذا الجموح دون أن يُظهر الألم، أو يشقى به شقاءاً بغيضا، فانقلابه الذي كان يتوهم أنه يلائم المصلحة، ويحقق الغايات، ويكفل لهذا الشعب ألا يعيش في هذه الفانية مهانا ًذليلا، ظلّ الدكتور يستقبل العتاب الذي يأتيه من الشرق، والتأنيب الذي يأتيه من الغرب، وحسن نيته تحميه وتحوطه، وتكفل له أن يتغاضى ويصلح، وبقى رافعاً للواء الإصلاح حتى آخر أيامه، داعياً إلى حوار مع نظام كان يتسع كلما اتسعت آمال السود في الخلاص منه، نظام جائر أغار على كل شيء، وأفسد كل شيء، بعد أن عظم جرمه، وبعد صوته في محاكم الجنايات الدولية.
ظلّ بيت الدكتور الترابي منذ عهود خلت يستقبل أعلام الساسة، وأفذاذ الأدب، وأقطاب المال، بأريحية وبشاشة، ويخطأ خطأ فاحشاً، ويأثم إثماً شنيعاً من اعتقد أن أقذاء الناس لم يكن لهم نصيب في ذلك البيت الذي يوازن بين شرائح المجتمع، والشيخ الذي تظهر عليه آثار علة خفية وهو يجاهد هذه العلة التي تؤلمه وتضنيه يمازح ابنه، ويُقْبِّلَ حفيده، ويهش لمتحدثه، ولا يقول كلاماً يدل على شيء حينما يحس ويشعر، أو يصف ما يحس ويشعر، فقد تعود أن يصبر على تجرع الغصص، ومضض المحن، ونصب المرض، كان الشيخ يؤثر نفسه بالصبر، وكأني به يخاطب نفسه قائلا لها: دعك عن هذا فو الله لا أروي عن مرضك شيء طالما أن السودان قد أشفى على الهلاك، إذن كان الشيخ منصرفاً عن علته، متأذياً بها، حريصاً على أن يجد العلاج الناجع لعلل بلاده وأوصابها، وكان يسابق حِمام الموت الذي حمل عليه في نهاية المطاف، وقد صور الشيخ خوفه وجزعه على السودان بعبارات ألفها منه الناس في آخر أيامه، بأن القارب قد أوشك أن يصل الساحل، وأن أيامه قد باتت معدوده ، وأنه يريد أن يطمئن على الوطن قبل رحيله، لأجل هذا كان الشيخ لا يدع أمرا حتى يحققه ويستوفيه، وليس هذا بالشيء القليل لشيخ يكابد نشغات الموت، "كان الرجل نحلة وشعلة متقدة من الحماس، وكل من عرفه وجايله يشهد له بأنه كان ذو ذهن متقد، كان رحمه الله دائم التفكر والتأمل حتى إن كثيرين من الساسة في بلادي ما كانوا يستطيعون استيعاب مبادراته واطروحاته الجرئية في المجال السياسي، كان الشيخ الترابي علّامة متبحراً في دنيا الفكر، واستاذاً بارعاً في السياسة، سواء اتفق الناس حول أدائه أو اختلفوا، وكونه يثير كل هذا الغبار الكثيف حتى لحظة توقف قلبه الكبير، يدل بوضوح على أنه لم يكن سياسياً عاديا ، ًولا مفكراً تقليدياً ، ولا فقيهاً دستورياً فحسب، بل كان رحمه الله أمة من الرجال ندر إن نجد مثله، وبوفاته تكون الاْمة الإسلامية قاطبة فقدت فارساً ما كان يشق له غبار".
لقد احتمل الشيخ هذا الطغيان في الخصومة السياسية، ورفع وطنه فوق كل شيء، وفوق كل عاطفة وغِل، وأمر عصبته أن يتخذوا لأنفسهم هذا المذهب، وأن يفرضوه على أنفسهم فرضا، وأن يهشوا في وجه حزب يزدريهم، قطع الصلة بينه وبين قديمه، وانتهى به الأمر إلى أن يسجن شيخه ويضيق عليه، والحزب الذي يعلم سخط الكثرة المطلقة من السود على تعسفه وجبروته، وجد في في مبادرات الشيخ فرصة يجب أن تغتنم، حتى يطول أمد هذا الحوار الجامع الذي دعا إليه عرابهم، ولست أراني أغلو أو اشطط إذا زعمت أن حزب المؤتمر الوطني لا يعتقد في الحوار ولا يريده، ولكنه يستطيع أن يمضي ويجيء، ويرفض ويقبل، ويضيف ويعدل في بنوده، وهذا ما حدث فقد رحل الشيخ دون أن يفضي هذا الحوار لشيء، وهاتين هما الخصلتين اللتان أمقتهما من الشيخ رحمه الله وأنكرهما عليه، تعمده للصعب، وقصده للعسير، وثقته بمن أحصينا عليهم طائفة من العيوب. لكنّ ما يحسب للترابي:"إختلافه مع حكومة الإنقاذ حول قضايا الحريات والديمقراطية وانتشار الفساد، ومماحكاته السياسية العنيفة مع السلطات، مما أدّى بالنتيجة إلى اعتقاله عام 2001، وكذلك عام 2004. كما يذكر له، على المستوى الفكري، محاولاته الجريئة في تجديد الفكر الإسلامي. ومن أمثلة ذلك ما ارتآه من إمكان إمامة المرأة للرجل في الصلاة، وفتواه في إباحة زواج المرأة المسلمة من أهل الكتاب، ومحاربته لختان الإناث. وفي ذلك كلّه، يصدر الترابي عن تراث فكريّ وسياسيّ سودانيّ عميق ومتميّز.
ولعلّ الدرس الأكبر، الذي يمكن أن يستفاد من حياة وأفكار وتجربة الترابي، هو وقوفه ببصيرة نافذة وقدرة فائقة على التأقلم والتعلّم أمام معضلة الدولة الحديثة وعلاقتها بالإسلام، من ناحية، وبالحداثة الغربية".
وسوم: العدد 904