موسم احتضان الوحوش!
يبدو أن التهافت لا يمكن إلا أن يصل إلى مرحلة تهافته الأكثر انحداراً، فكل ما يتدحرج وحلمه القاع لا يمكن أن يتوقف قبل بلوغه؛ وحينما تنحدر الأخلاق والقيم والمبادئ فاعلم أن البشر لا يمكن أن يعودوا إلى بشريتهم بعد أن يُمعِنوا في عناق القتلة والسفاحين وعتاة الفاشيات الكبرى التي انحدرت من أصلاب قتلة آخرين، حتى وإن تابوا.
لكن ما هو محزن أن هؤلاء يجرفون في طريق انحدارهم أوطانهم وشعوبهم، ولا يتورعون بفيضان سقوطهم عن جرف أوطان حرة، رغم وقوعها تحت الاحتلال، وشعوب حرة لم تنحنِ لظالم ولم تستكن لطغاة ولم تكسرها أساطير الإمبراطوريات عن عظمتها.
ليس هذا موسم احتضان السلام والسعي لتوسيع الرقعة التي يمكن له أن يتنفس فيها، ويتنفس التراب الذي تحت قدميه، بل موسم احتضان الوحوش.
لا أظن أن هناك سقوطاً يبالغ في دناءته، ويفتخر بها، ويعلّقها على صدره، مثل هذا السقوط الذي تمارسه أنظمة التطبيع الجديدة، التي ما إن خرجت من جحورها حتى راحت، بكل ما فيها من عنجهية العملاء الصغار، تسعى إلى تجاوز أي سقوط حدث قبلها، كما لو أنها هي التي حلمت دائماً بتحقيق أي شكل من الإنجازات ليكون لها مكان في كتاب جينس، وهي تسعى لفتح فصل جديد في هذا الكتاب، يكون لها وحدها، كتاب تحطيم الرقم القياسي في الخيانة والعمالة والتبعية والانبطاح وإراقة ماء الوجه، هي التي تظنّ أن الوجوه يمكن أن تكون نظيفة لو غسلت بالنفط والتذلل، وأن أناشيد الحرية يمكن أن تختفي كلما ارتفع نباح هذه الأنظمة أكثر، وهي تقود أطفال شعوبها لترديد نشيد الفاشيين في ساحات مدارسهم، وهي تدوس براءتهم.
إنه موسم احتضان الفاشيات، بل وعبادتها، والسقوط على أحذيتها بغية الحصول على شرف تقبيلها.
مرعب هذا التهافت الذي لم يبلغه المتهافتون الأوائل، أولئك الذين وقّعوا اتفاقيات «سلام» لم يكن فيها غير بند واحد، هو تمديد عمر القتلة، وإتاحة الوقت اللازم لدباباتهم وعنصريّتهم لأن تصل إلى بلاد أخرى وتحظى بحصة أكبر من دم الضحايا.
ما يحدث اليوم من تطبيع هو حفل كبير لتكريم القتلة، والاحتفاء «بمنجزاتهم» التي حققوها على مدى مائة عام، في القتل والاغتصاب والنهب والكذب وابتزاز البشرية كلها.
أي سقوط هذا، حين يتقدم هؤلاء ليضعوا وردة على صدر دبابة «ميركافا» مصابة بالتّخمة لفرط ما في جوفها من أجساد سحقتها، وأي سقوط هذا حين يتقدّمون ليضعوا أكاليل الزهور حول أعناق طائرات دمَّرت مدناً وقتلت أطفالاً ونساء وشيوخاً ورجالاً يحفظون وصايا الشمس عن ظهر قلب، وأي سقوط هذا، حين يزنرون بارجة حربية تفننت في قتل بشر خرجوا إلى شاطئ البحر ظانّين أنه الجهة الوحيدة التي بقيت لهم، الجهة الوحيدة التي يمكن أن يمرّ منها الهواء إلى رئاتهم، وإلى رئات أولئك الصيادين الذين لا يحلمون بأكثر من سمكة تسد جوع أطفالهم في زمن الحصار الكبير، وأي بشاعة هذه حين يعانقون قناصة يترصّدون أولئك المزارعين الذين عليهم أن ينزفوا دمهم في طريقهم لقطاف ثمرة زرعوها.
بأي حبر سيُكتَب تاريخ هؤلاء المتهافتين الذين بلا ملامح وبلا رؤوس.
مجرم ذلك الذي يُوقِف أبناءه أمام كاميرا هاتفه ليلتقط لأطفاله صورة، بعد أن ألبسهم قمصاناً بيْضاً لا تمتُّ للنقاء، مُزيّنة بعلم بلده وعلم الدولة الصهيونية. هل خطر بباله أنه يوسع ابتسامة براءتهم بسكين خيانته، هل خطر بباله أن أطفاله سيقفون ذات يوم أذلاء بلا وجوه أمام مستقبل لن يغفر لهم أنهم ابتسموا لكاميرات آبائهم، وهم يرتدون لباس العار هذا.
يهرب البشر من عارهم، لكن هؤلاء يهرولون إليه، ويُخفي البشر تاريخهم الأسود بكذبهم مرة وباعتذارهم مرة، وباختفائهم مرة، لكن هؤلاء يُدوِّنون سفر عارهم بكعوب بساطير القتلة، هؤلاء الذين لن يجدوا ذات يوم أمامهم غير ظلمة تاريخهم متربِّعة في الزوايا غير تاركة لهم مكاناً يسندون ظهورهم إليه غير العار الكبير.
على أي شيء يراهن هؤلاء، وحُماتهم طامعون بهم، وضيوفهم هم مُحتلّوهم، وحلفاؤهم هم أول من سيُطلق النار مباشرة على رؤوسهم ويعملون على تفريغ أرضهم بافتعال حروب كما يفتعل السلام، وبافتعال حماية لافتعال عمليات التطهير، وبافتعال صداقة، كي يناموا غداً في أسرتهم.
كل خونة التاريخ والقيم الإنسانية لهم مكان واحد، يعرفه هؤلاء، ومصير واحد يعرفه هؤلاء، وفصل واحد من كتاب الزمن يعرف عنوانه هؤلاء. فليس هناك من تَجلَّى وقد كانت ساقاه السقوط، وقلبه الخواء، وعيناه السراب، وشفتاه ولسانه الكذب، وقامته الهُلام، ومبادئه الخنوع، وحلمه النجاة بأي ثمن.
وبعد:
وفي رام الله، كما لو أن السلطة استيقظت من سكرتها فجأة، فإذا بكل محاولاتها للحفاظ على كرامة شعبها وقدسية فلسطيننا، بعد رياح خماسين التطبيع، لم تكن أكثر من زلّة لسان، فتراجعت عن فرصتها الوحيدة التي قد تردُّ لها اعتباراً، هي التي لم يكن لها في هذا الوجود أي اعتبار، هذه السلطة التي صُعِقتْ حينما أدركتْ أن هناك من يخون القضية أكثر منها، ويتاجر بها أكثر منها، ويطعن فلسطين في قلبها بقوة أكثر منها، وأنه بات الأقرب إلى قلب الصهاينة أكثر منها، فاندفعت هذه السلطة بين ليلة لا ضحى لها للركض، محاولة الظفَرَ بتسجيل رقم خيانة وتذلُّل جديد لا يجوز أن يُسجَّل في كتاب جينس للخيانات بأسماء هؤلاء الذين طبّعوا، فهي التي باعت فلسطيننا أولاً، ولذا فإن من حقها أن تفوز بكأس الخيانة قبل الجميع!
وسوم: العدد 905