الدنيا ليست كلُّ القصة

تغيب شمس هذا اليوم فنلج بعد ليل بوابةَ نهارٍ جديدٍ ، وينتهي أسبوع لنبدأ أسبوعًا يليه ، وينتهي عامٌ ليبدأ عامٌ جديدٌ . وهكذا تنتهي نهايات وتبدأ بدايات جديدة منذ أن خلق الله الخلق ، وبرأ هذا الكون الفسيح . أمنياتنا في تلك النهايات ومع البدايات الجديدة تبقى معلقة  بسقف الرجاء ، سنوات تتوالى ، وأحداث تتراكم ، فما نعيشه ليس رواية أو خرافة. بل هو واقع حقيقي عشناه لحظة بلحظه بكل تفاصيله وأدقها...  ( صقيع قارس، غياب مع لهفة ، وغصّة حنين ، دمعة حزن ، وفقْدٌ يعذبنا أنينه ، أفراح تسعدنا وأحزان تؤلمنا، و أحداث وإن غضضن عنها أبصارنا تتعملق مشاعرنا ، ويتقزّم ما عاهدنا به أنفسنا ذات مرة ) .

 مالذي بإمكاننا فعله ونحن نحتسب كل يوم مرّ بنا ومررنا به بأفراحه وأتراحه ، بحقوق ضاعت وواجبات قصّرنا بأدائها ، ثم نحاول ومن جديد تصنّع انفعالات وحماس لاستقبال يوم جديد أو عام آخر ، نظن أننا سنعيشه دهرا نضع خططا ، و ونخطط لمشاريع ... ننجز ... نحقق و.. و... دون أن يسبقنا الأجل! ليطوي صفحة أحلامنا وطموحاتنا ، و يدفن معنا الأعوام المنصرمة .

 لكل بداية نهاية مسبقة، والسنوات تمضي سريعا دون أن نشعر.

نحاول التمسّك بما تبقى لدينا ، نبني هنا ونؤسس هناك ، نزرع بعض ما قد يفوح عطره بعد رحيلنا ليبقى لنا ذكرى  حسنة بمسيرة حياتنا القصيرة مهما طالت .

ففي هذه الحياة أيام حلوة سعيدة ، وأخرى مرة فيه تعاسة ، وكما يقولون الحياة ملأى بالحجارة ، وعلى العاقل أن يتجنب العثرات ، فبعضها مميت ،  والحياة ملأى بالقيم السامية مثل الإخاء والوفاء والتعاون والتراحم والموددة إلى آخر مافي قاموس القيم من مزايا المآثر والفضائل والمكرمات . والحياة أيضا ملأى بالقبائح من الظلم والغدر  والتكبر ، وفي الحياة فقر وغنى ، وصحة ومرض ... ولا يخفى على أهل الحياة مافيها من منغصات ، وما فيها من عجائب .

وأسفار ماسجلته الحياة من سير الناس وعاداتهم ومعتقداتهم لاتُحصى مؤلفاتُها  ، يذكر الناس آدم عليه السلام فـتأتي إلى عقولهم القصص والحكايات ، ويذكرون نوحا عليه السلام فتتوارد إلى أذهانهم ماكان من نتائج الصراع بين الحق والباطل . وهكذا تمضي حقبة لتفتح الحقبة التالية أبوابها على مصاريعها ، وهنا تأتي الحقيقة التي لامفر منها وهي : ( أنك ستعيش ) ، ولكن السعيد في كل حقبة ذاك الذي يعرف كيف يعيش ، وما هي أسرار حياة السعداء ، وماهي أسرار حياة الأشقياء ، فيقف الإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والبصيرة عند بوابة الحقبة التي سيعيش فيها ... صادقا مع نفسه ، مع صفاء فطرته  ، فلا يحزن إن داهمه العسر ، ولا يطغى إن وافاه اليسر ، فالدنيا كما جاء في الآثار القدسية لاتعادل عن خالقها جناح بعوضة ،  فالفرح المحمول على البطر مذموم ، والحزن المصفَّد باليأس ممقوت  ، فلا مع هذا المسير ، ولا مع ذاك النفير . فقد ملك الدنيا قارون ــ كما يُقال ــ ولكنه خرج منه بما أساءه في حياته ويوم نشوره ، فلو كانت الدنيا بما فيها بيد محتاج ثم فقدها ، ونظر إلى المآل المحتوم لَمَـا حزن عليها ومن أجمل ماقرأت في هذا السياق ماكتبه أحدهم : (من يقرأ التاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبداً، و سوف يرى الدنيا أياماً يداولها الله بين الناس. الأغنياء يصبحون فقراء، والفقراء ينقلبون أغنياء، وضعفاء الأمس أقوياء اليوم، وحكام الأمس مشردو اليوم، والقضاة متهمون، والغالبون مغلوبون، والفلك دوار والحياة لا تقف، والحوادث لا تكف عن الجريان، والناس يتبادلون الكراسي. لا حزن يستمر.. ولا فرح يدوم..ولا حزن يدوم ولا سرور . ولا بؤس عليك ولا رخاء.

إذا ما كنت ذا قلب قنوع ... فأنت ومالك الدنيا سواء

والدنيا مطية للآخرة، ومن فقد المطية فَقَدَ الوصول. فالدنيا ليست كل القصة ، أجل : الدنيا ليست كل القصة  ) .

وسوم: العدد 906