المظاهر تخدع حين تظهر الأنجع وتخفي الأشنع
الكائن البشري يخدع وينخدع بطبعه، فيبطن من طباعه وسلوكه ما لا يظهر. وقد يمر وقت طويل وهو على هذه الحال قبل أن ينكشف ما يخفيه . وقد لا ينكشف ذلك فيغادر هذه الدنيا وهو يخفي ما يخفي إلى أن تنكشف أسراره في الآخرة بين بدي الذي يعلم السر وأخفى وقد كان سبحانه وتعالى بأسراره التي أخفاها عن الخلق عليما .
ولمّا كان علم بني آدم منحصرا في الظاهر دون الباطن ، فإن أحكامهم على بعضهم البعض تكون انطلاقا مظاهرهم التي تكون على حالين إما صادقة أو كاذبة خادعة . ولا يكون الخداع في المظاهر إلا إذا وجد ما يستوجب الإخفاء من طباع وسلوكات يخشى أن تعرف. ولمّا كان بنو آدم أيضا يحبون حمد بعضهم البعض، ويحرصون على ذلك أشد الحرص ، فإنهم يعولون في إدراكهم للحمد والثناء على المظاهر ، ويختارون منها ما يخدع ويضلل بإظهار الأجمل والأنجع ، وإخفاء الأقبح والأشنع .
وأول المظاهر الخادعة التي يعول عليها بنو آدم هيئاتهم ،فيختارون من الألبسة والزينة ما يعتبرونه جديرا بأن يجلب لهم الوقار والهيبة والاحترام والتقدير والسمت الحسن ... وكل ما يشتهى مما يحمد . والخداع أشد وأقبح ما يكون في الهيئات التي تجعل بني آدم يتقمصون من الصفات والسجايا والمزايا ما هم مفتقرون إليه ولا يعدو أن يكون مجرد آمان يتمنونها وأحلاما يحلمون بها .
ولا يقتصر اعتماد خداع الهيئات على عصر دون آخر أو بيئة دون أخرى بل هو سلوك عام في البشر منذ أن خرجوا من البداوة المحافظة على الطبع إلى التحضر الداعي إلى تكلف التطبع. ولا شك أن زماننا هذا يعرف هذا النوع من الخداع المضلل أكثر من الأزمنة الماضية ، وذلك بإخفاء كل أنواع القبح المادي والمعنوي . أليس الأفراد ذكورا وإناثا اليوم يبالغون في الاعتناء بهيئاتهم حين يقبلون على سبيل المثال على خوض تجربة الزواج ؟ فلا يخرج الواحد منهم للقاء الآخر إلا بعد حيرة أمام ما يجب أن يلبس أو يتحلى به أو يطلى ... وقد يقضون لحظات وقوفا أما المرآة ، وقد يكثر بعضهم الوقوف أمامها حتى يحصل لهم رضى داخلي عن أنفسهم بأن هيئتهم على أحسن حال، ويرجح لديهم أن من يستهدفونه بها سيأخذه ما يرومونه منها من إعجاب بهم . أليس العرسان والعرائس في كل البيئات يبالغون في الظهور على أحسن الهيئات لباسا وزينة وتزينا . وأكبر عملية خداع تكون في الأعراس سواء كان ذلك بين العرسان والعرائس أو بين من يحضرون حفلات الأعراس خصوصا من يتصيدون خلالها رفاق ورفيقات العمر. ولقد نبه أحد العقلاء الراغبين والراغبات في الزواج ألا يختاروا شركاء حياتهم خلال حضور تلك الحفلات ، وأوصاهم بالاختيار خلال مناسبات المآتم لأنها مناسبات لا خداع في للهيئات خلالها إذ لا تكلف خلالها في زينة أو تزين وهي لحظات حزن وأسى وانكشاف ما تخفيه الزينة والتزين .
ومما يؤثر سلبا على العلاقة الزوجية خداع الهيئات لأن الأزواج والزيجات لا يكتشفون خداعها إلا بعد الدخول في تلك العلاقة ، فيظهر ما أخفي، وما غطى عنه التزين والزينة قبل الزواج ويوم الزفاف . وما بعد هذا اليوم تظهر الحقيقة الكاشفة للخداع ، وينشأ عنها ما يعكر صفو محبة ومودة كانت منشودة قبل الزواج ويدعيها كل طرف .
وإذا كان أمر العيوب الخلقية ـ بفتح الخاء وتسكين اللام ـ يهون بعد أن تسقط الأقنعة بسبب المحاسن الخلقية ـ بضم الخاء واللام ـ التي تغطي عنها وتجعل المخدوعين يسلون أنفسهم بهذه الأخيرة عن صدمة العيوب الخلقية ـ بفتح الخاء ـ ، فإن الكارثة هي أن تجتمع عليهم العيوب الخلقية والخلقية ـ بفتح وضم الخاء ـ وتتحول حياتهم الزوجية إلى جحيم لا يطاق ، وقد تصير الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، فتطفوا على السطح عداوة وكراهة بعد عشق ومحبة ووله وهيام مما ادعاه كل طرف من قبل ، وتحل القطيعة محل الوصال ... إلى غير ذلك من عواقب الأمور .
ولا يقتصر خداع المظاهر على الذين يرتبطون بعلاقة الزواج فحسب بل يطال كل العلاقات الاجتماعية من قرابة وصداقة وزمالة وجوار ... حيث يظهر الناس لبعضهم البعض ما يخفون من حقائق تتعلق بطبائعهم وسلوكاتهم ومعاملاتهم ومواقفهم والتي لا تخرج إلى العلن كما هي على حقيقتها إلا بعد معاشرة أو مصاحبة أو مجاورة أو تجريب ، فتكذّب خداع المظاهر .
فكم من شخص يري غيره من الأدب والاحترام والتقدير والمحبة ما ترتاح له نفسه ، وبمجرد أن يوليه ظهره على بعد خطوة أو خطوتين جرّحه تجرحا واغتابه آكلا لحمه . ويمضي على هذا السلوك المخادع إلى أن يفضحه الله عز وجل وينبه المخدوع به .
وكم من شخص يبالغ في إظهار الورع والسمت والتقوى والتدين إلى درجة يخشى الناس أن يقصروا في إجلاله وتقديره ،وهو إنما يخفي وراء سمته المغشوش من الطباع السيئة ما يندى له الجبين حين تعلم ،و يظل على خداعه حتى يفضح الله عز وجل ما كان يخفي ، وتحصل حسرة لمن انخدع في مظهره ، ويأسف على تقدير وتوقير كان يكنهما له وهما غير مستحقين لمخادع خدع الناس بالتظاهر بالورع والتقوى .
وكم من مغرض طمّاع جشع يخفي طمعه وشجعه بتكلف القناعة والزهد فيما عند غيره حتى ينخدع به المنخدعون ثم يحين وقت ينكشف فيه طمعه وجشعه ، فيأسف المنخدعون لما انخدعوا له من مغشوش القناعة المقنعة والزهد الزائف ، فتهوي قيمته عندهم إلى أسفل سافلين، وقد كانت عندهم من قبل في أعلى عليين.
وكم من متكلف للعلم والمعرفة والخبرة ورسوخ القدم في كل ذلك ، فيتكلف صفات أصحابها حتى ينخدع به المنخدعون ، ولكن يأتي عليه حين من الدهر فينكشف أمره ، ويصير موضوع تندرالمتندرين ، وسخرية الساخرين .
وكم من متكلف للجود والسخاء والأريحية والبذل والعطاء ، فيتكلف صفات أصحاب هذه السجايا ،وهو خلاف ذلك شحيح بخيل قد حمله الرياء على تكلف الجود والكرم حتى ينكشف سره في يوم من الأيام ، ويحوز ذلا واحتقارا مقابل ما كان يريد من مدح وثناء .
وكم من متكلف للتحضر والتقدم في ملبسه ومسكنه ومركبه وحديثه ... وخلف تكلفه لكل ذلك تخلف وتأخر صارخان ، وأنواع من السلوكات المشينة يربأ بها عن أنفسهم من لا يدعون تحضرا ولا تقدما من أسوياء الناس . فما معنى التحضر عند شخص يخرج من مسكن فاخر ، ويمتطي سيارة فارهة ، ويلبس أفخر لباس، ولكن تصدر عنه سلوكات منحطة، فلا يحترم على سبيل المثال لا الحصر قوانين السير ، ولا يراعي نظافة الأماكن التي يحل بها ويغادرها تاركا وراءه مزبلة ، ولا يراعي احتراما ولا توقيرا ولا تقديرا لمن يخالطهم ممعنا في الكبرياء والتعالي والتطاول عليهم . وتمر به لحظات ،فينكشف تكلفه ما ليس من طبعه ، ويفتضح سيء سلوكه ، ويهوي في أعين من كانوا يعدونه متحضرا إلى حضيض التخلف والسفالة والخساسة والنذالة .
وكم من متكلف للمسكنة و الذلة والفقر والفاقة وسوء الحال حتى ترق له القلوب وتجود عليه الجيوب، وهو مجرد ماكر محتال لا يدوم له خداع حيث يأتي يوم يفتضح مكره واحتياله، فيحوز الذم والخزي ويلحقه العار والشنار .
إن كل ذلك من المظاهر الخادعة التي تظهر الحسن ، وتخفي القبيح . ومع علم ووعي الناس بذلك ،فإنهم لا يفكرون مع شديد الأسف في التوفيق بين ظاهرهم وباطنهم ولا يصدقون في ذلك ، فيعرفون على حقائقهم فإن حمدوا حينئذ على محامد كانوا مستحقين للحمد والثناء ، وإن ذموا على مقابح كانوا أجدر بالذم وأهلا له .
ونختم بتحذير من خداع المظاهر حذر منه الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل حيث قال في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وإذا رأيتهم تعجب أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون )) .
وسوم: العدد 910