المبالغة في الأحلام بين النجاح والتخدير

إن من أهم الغرائز الحيوية، التي فطر الله تعالى، الناس عليها هي: الأحلام، سواءً كانت هذه أحلام الليل، التي تأتي الإنسان أثناء النوم، أو أحلام النهار، أو ما تسمى أحلام اليقظة

والنوع الأول يبدأ مع الإنسان بعد ولادته مباشرة، فتجد الطفل وهو نائم، يضحك أو يبكي أو يصرخ، أو يرتجف، أو يقوم بحركات غريبة، تعبر عما شاهده من أحلام أثناء نومه، وتستمر معه طوال الحياة، حتى تخرج الروح من الحلقوم! 

وكذلك النوع الثاني، يظهر عند الإنسان منذ السنوات الأولى لطفولته، فيبدأ يحلم أن يكون طياراً، أو مهندساً، أو طبيباَ، أو فناناً أو أن يفعل كذا وكذا! 

وكلما كانت الأحلام، عالية وكبيرة لدى إنسان ما، كلما دل على أن هذا الإنسان لديه همة عالية، وطموح كبير، وتوق شديد، إلى بلوغ هذه المرتبة العالية. 

فإذا ما سار هذا الإنسان الحالم، في طريق تحقيق حلمه، وبذل كل جهده، وأقصى طاقته، وصبر صبراً جميلاً، فإنه على الأغلب، سيبلغ مراده، ويحقق حلمه. 

وهناك آلاف الشواهد في تاريخ البشرية، تثبت أن كثيراً من الناس، حلموا منذ صغرهم للوصول إلى مرتبة عالية في الحياة، وتمكنوا من تحقيقها، ببذل الجهد، والصبر على التعب، واقتحام الأهوال، والاستهانة بالصعاب، كما قال الإمام الشافعي:  

بقدر الكد تكتسب المعالى *** ومن طلب العلا سهر الليالي

ومن رام العلا من غير كد *** اضاع العمر في طلب المحال

تروم العز ثم تنام ليــــــلا ***   يغوص البحر من طلب اللآلي   

وهذه الأحلام عموماً، يطلق عليها بعض الناس ما يسمى بالتفاؤل! وهي صفة عظيمة الأهمية، وسجية عالية القيمة، وذات شأن جليل، في حياة الإنسانية، وهو الصفة الإيجابية، الدافعة، للقيام بعظائم الأمور في الحياة. 

إنه قلب الحياة النابض، الذي يضخ الدم غير المرئي، في شرايين جسم الإنسان، ويغذي خلاياه بالطاقة؛ والقوة التي تبقيه على قيد الحياة. 

  

إنه المنارة، التي تضيء درب السالكين، في أتون الحياة المظلم. إنه الطاقة؛ والقوة التي يستعين بها الإنسان، للتغلب على صعاب الحياة، واختباراتها القاسية، المريرة. 

بدون التفاؤل.. تصبح الحياة كئيبة، سوداء، قاتمة، ويُشل عمل التفكير، لدى الإنسان! ويصبح محطماً عاجزاً! 

ولكن المصيبة الكبرى؛ والداهية الدهياء.. هي: الإفراط في التفاؤل! 

فالإفراط والمبالغة؛ والتضخيم؛ والغلو في التفاؤل.. يتحول إلى الأماني العِذاب؛ والأحلام الوردية؛ والتمنيات الجميلة! فتصاب النفوس بالغرور؛ والعجب؛ والإهمال؛ والتهاون في تنفيذ المسؤوليات! ويعطي صورة وهمية خيالية، لما سيحدث في المستقبل، فتتعلق بها النفوس، وترنو إليها الأنظار، وتترقب الأفئدة حدوثها! فيخف العمل؛ ويضعف الجهاد؛ ويخيم الخمول والجمود على الناس، معتمدين ومطمئنين، إلى أن المستقبل، سيكون حلواً جميلاً! اعتمادا على الأماني العِذاب!  

وحينما لا تتحقق هذه الأمنيات، يصاب الناس بالإحباط! ومن ثم يتحول إلى اليأس؛ والقنوط ! ويصبح، نوعاً من الكذب والخداع، والتضليل والضحك على الذقون، وعلى الناس أجمعين. 

ولا أدل على صدق ذلك، ما حدث، عند فك الحصار عن حلب في المرة الأولى، قبل أربع سنوات. فأخذ الناس، يرقصون ويغنونّ! بل ويطلبون، إقامة الولائم، بالكبب الحلبية! ثم كانت النتيجة البئيسة، الحزينة! عودة الحصار من جديد بعد بضعة أيام، لما أصاب المقاتلين من استرخاء وغرور، وفتور! ثم تم تسليم حلب على طبق من ذهب إلى النظام الأسدي! 

     

ومع كل أسف! ومع كل حرقة ألم! ومع كل لوعة مضنية! ودموع لا تُكفكف، يا سورية الحزينة! أن الذي جرى مع هذه الثورة البريئة، العظيمة، السامية! 

 هو: عبارة، عن تجريب كل الأفكار المبتسرة، الخديجة، الطفولية، الصبيانية، اللقيطة من هنا وهناك!  إضافة إلى تجريب كل الأسلحة الجديدة الروسية، والإيرانية، والأمريكية، والصينية وغيرها في أجساد أهل سورية! 

إضافة إلى تداعي كل الخطباء، والدعاة، والمشايخ، وكل من هب ودب، وكل من حفظ آية أو حديثاً، أو رأى رؤية، أو حلم حلماً، ليجرب حظه، وصوته الجَهْوَري، في التحدث إلى السوريين، وينبش في الأحاديث الشريفة، التي تتكلم عن آخر الزمان، وعن فضل الشام، ليعرضها على الملأ، ويسقطها على الواقع الحالي، مدعياً سفاهة، وكذبا، وجهلا، أنها تطابق هذا الواقع! مستغلاً جهل الناس وحماسهم، واندفاعهم، ومشاركتهم القوية الفعالة بالثورة.. بأن النصر، لا محالة قادم بعد أيام، أو أسابيع قليلة على الأكثر!  

 بل كانوا يحلفون الأيمان المغلظة! أن هذا الذي سيحصل قريباً جداً، وأن نهاية بشار، أضحت قريبة جداً، جداً! وستكون شنيعة، بل أشنع من نهاية القذافي، وأفظع من نهاية هتلر! 

وانتظر الناس المخدوعون بكلام أئمة الخطابة - وما هم إلا أئمة الجهالة - أسابيع، وأشهراً وسنوات عديدة، ولم يحصل شيء. فأصاب الناس، الإحباط والفتور، إلا ما رحم الله، وهم قليل جداً!  

فقد كان عدد النشطاء، والعاملين في مختلف مجالات الثورة، بالألوف في بداية الثورة، ثم أصبحوا بالمئات، ثم أصبحوا بالعشرات، ثم الآن أصبحوا بالآحاد! 

وبعدها انسحب أئمة الجهالة، والضلالة، وتواروا من المشهد نهائياً! ولم يعودوا يتجرؤون، أن يتكلموا بكلمة واحدة، بعد أن خدعوا الناس، وضللوهم، وأوقدوا فيهم الحماسة القوية، المبتورة عن سنن الله الثابتة. 

إن الأحاديث الشريفة، التي كان يسوقها الجهلة من الدعاة، والخطباء.. هي أحاديث معظمها صحيحة. ولكن، لا يجوز لأي إنسان، فيه مثقال ذرة من العلم، وذرة من الخوف من الله تعالى، أن يكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدعي أنها تطابق الواقع الحالي، وأن القيامة أوشكت أن تقوم غداً أو بعد غد! 

من أنبأه بهذا؟! أيعلم الغيب؟! أيعلم أن هذه الأيام هي نهاية العالم؟! هذا هراء، ورجم بالغيب، وتنزيل الأحاديث الشريفة، في غير موضعها! 

إذا كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.. هي إحدى علامات يوم القيامة، كما ورد في الحديث الصحيح، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - قَالَ: " مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ". وَفَرَّقَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ)

وهذا الحديث مضى عليه أكثر من 1400 سنة، فكم ألف سنة أخرى، تحتاج، حتى تقوم الساعة؟! (يَسۡ‍َٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ) الأحزاب 63. خاصة، وأن اليوم عند الله، كألف سنة مما يعد الناس.(وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) الحج 47. 

 

فالله تعالى، تكفل بالشام حقاً وصدقاً منذ أكثر من 1400 سنة، وهي أرض مباركة، وأجنحة الملائكة تحفها، وترعاها، كما ورد في الحديث الصحيح عن زيد بن ثابت (قال: طُوبى للشامِ، طُوبى للشامِ، قُلْتُ: ما بالُ الشامِ؟ قال: المَلائكةُ باسِطو أجنِحَتِها على الشامِ).  

 

هذا كله، حقيقة لا شك في ذلك، ولا ريب، ولكنها، لا تخبرنا، أنها تمنع من تسلط المجرمين عليها، أو تمنع من قتل أهلها، وسفك دمائهم؛ وانتهاك أعراضهم! 

  

وقد حصلت مجازر في الشام، أثناء غزوها من قبل هولاكو، وتيمورلنك (الأعرج) زعيمي التتار، وأثناء احتلال الصليبيين، ما تشيب لهولها الولدان! أشنع، وأفظع مما يحدث الآن بآلاف المرات! 

وهذا، ليس للتهوين مما يحدث الآن، أو لتبرئة المجرمين! معاذ الله! ولكن فقط للمقارنة! فقد كان قديماً في اليوم الواحد، يُقتل مائة ألف إنسان، وتُقطع رؤوسهم، ويُبنى بها أبراج، ومنارات! 

أثناء مرور هولاكو بدمشق، أباحها لجنوده ثلاثة أيام، لم يتركوا بيتاً، إلا وحرقوه، ولم يتركوا امرأة صغيرة، أو كبيرة، إلا اغتصبوها! 

  

ونفس الشيء، تكرر أيام تيمورلنك، الذي مر أيضاً بحلب، مرتين أثناء عبوره إلى الأناضول، للقضاء على السلطان بايزيد، الذي استطاع أن يهزمه، ويأسره، ويأخذه معه إلى بلاده، ثم في العودة إلى دمشق، ومروره بحلب مرة ثانية، وفي كل مرة كان يقتل، ويخرب، ويغتصب من النساء ما يشاء! 

  

المهم، أنه مرت على الشام في الأيام السابقة، أيام أشد سواداً، وأحلك ظلمةً، وأكثر هولاً من الآن، بكثير! ومع ذلك.. لم تمنع هذه البركة، والحماية الربانية للشام، من حصولها! 

بل، لم تمنع القرامطة، من دخول الحرم المكي، الذي هو أشد قدسية، من الشام، وقتل عشرين ألفاً من الحجاج، واقتلاع الحجر الأسود، وتغييبه عن الكعبة، عشرين سنة! 

بل، أشد من هذا، عظة، وعبرة! أليس الأنبياء، أكرم الخلق على الله تعالى؟ هل منعت كرامتهم عند الله، من قتلهم على أيدي بني إسرائيل؟! 

إن الذي يتغافل عن سنن الله، وقوانينه الثابتة، التي لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتعامل مع البشر، بالعاطفة، ولا المجاملة، ولا تميز بين مسلم، ولا كافر.. لا يفقه في دين الله شيئاً، وإن زعم أنه عالم! 

فالذي يواجه الدبابة، بمسدس، لا يستطيع أن يدمرها، ولو كان الذي يحمله ولي، أو تقي! وكذلك، الذي يستخدم بارودة، ليسقط طائرة، فإنه عاجز عن إسقاطها. 

قد تحصل كرامة، أو معجزة لشخص ما، أو لنبي مرة، ولكن لن تتكرر كل مرة. فالنبي يونس عليه السلام، التقمه الحوت، كما يلتقم كل الناس، ولم تشفع له نبوته في عدم التقامه! والنبي يوسف عليه السلام، ألقي في غيابات الجب، وسجن! 

وكذلك، الذي يجهل أبجديات التخطيط العسكري، ولا يعرف أن يضع خطة، لمواجهة العدو، ويقاتله ارتجالياً، ويرفض الاستعانة، بعلوم الضابط العسكري، الخبير بالتخطيط الإستراتيجي، تكبراً، وعلواً، وغروراً! سيفشل، ولو كان، من أتقى الأتقياء! 

  

الخلاصة: إن أي شخص، يتحدث إلى الناس، بقصد زرع الآمال في نفوسهم، وبيعهم الأوهام، والأحلام الوردية، وتحميسهم، وإغرائهم بالنصر، بدون تخطيط ولا عمل، ويتغافل عن ذكر السنن الكونية الثابتة.. فهو شخص جاهل، ومخادع، ومضلل!!!  

وسوم: العدد 911