استعراض وجهة نظر المرحوم المفكر المصري محمد البهى بخصوص قضية العلمانية والإسلام
عرض وجهة نظر المرحوم الأستاذ الدكتور محمد البهى بخصوص قضية العلمانية والإسلام سيكون من خلال بعض ما أبدعه فكره الوازن والمتألق، وقد نشر في مجلة الأزهر سنة 2007 في شكل كتيب صغير عبارة عن هدية لقرائها ، وقد قدم له الأستاذ الدكتور محمد البيومي معرفا بهذا العلم الشامخ من أعلام الفكر العربي الحديث مشيدا به، وذاكرا مناقبه ومواقفه المشرفة ،ولا داعي لتكرار ما جاء في تقديمه لأن فضيلة الأستاذ البهى غني عن التعريف ولهذا أحال الأستاذ البيومي القراء على مذكراته التي صدرت تحت عنوان : ( حياتي في رحاب الأزهر طالبا ، وأستاذا ووزيرا ) لمن أراد أن يستمتع بمعرفة حياة مفكر كبير حافلة بالعطاء الفكري والمواقف الجريئة في الدفاع عن الإسلام والرد على خصومه العلمانيين .
ويقتضي منا هذا الاستعراض أن نسرد ما جاء في مقدمة الكتيب وهو كالآتي :
( يفرض علينا الأجنبي منذ الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر" موضوع التفكير" ويجرنا إلى مشاكل ليست من طبيعة بيئتنا ، ويدفعنا في متاهات ننسى فيها ديننا وتاريخنا وكل عوامل مقوماتنا أو نتركها عن قصد ، وربما نتركها متحدين إياها ، وجاهدين في حمل الآخرين منا على الترغيب فيها .
فرض علينا " العلمانية " في تعليمنا ، وفرضها علينا في تشريعنا ، وفرضها علينا في تفكيرنا وسلوكنا ، وفرضها علينا في سياستنا ، وفرضها علينا في اقتصادنا ، ففصل بين الإسلام وحكم الدولة ، وأبعد الإسلام عن مجالات الحياة العامة ، وتركه داخل المسجد ، وفي قلوب الناس يمارسونه اعتقادا ، وقلّما ينزلون به إلى التطبيق .
ويحاول منذ الحرب العالمية الثانية أن يفرض علينا علمانية من نوع آخر متطرف ، يحاول أن يفرض علينا إلغاء الدين عقيدة بعد أن طمست معالمه عملا في أوضاع المسلمين ، يحاول أن يصل بنا إلى ما يسمى " الإلحاد العلمي " ، وهو مرحلة من مراحل العلمانية كي نصل عن طريقه إلى مجتمع غير طبقي يفرض علينا العلمانية كحل لمشكلة ازدواج السلطة ، وكحل آلي لتحقيق ما يسمى بالعدالة الاجتماعية .
هل المجتمع الإسلامي في ظل الإسلام ومبادئه في الحكم والسياسة ، ونظرته إلى الإنسان ، وفي تحديد منهج السلوك له ...تنشأ له مشكلة تتعين العلمانية حلا لها ؟ أم أن العلمانية كحل تتطلب أن نستورد من الأجنبي عنا مشكلته أولا؟ فإن صعب استيرادها فلنتصورها على الأقل ، وتكون العلمانية عندئذ حلا لوهم ، وليست لحقيقة قائمة فعلا ؟ إن هذا البحث يحاول الإجابة عن هذين السؤالين ).
فهذه المقدمة تعتبر خريطة طريق كما يقال لطرح هذا المفكر قضية الخلاف بين العلمانية الإسلام من وجهة نظر خبير بهما في مضانهما .
وبعد هذه المقدمة المركزة ،يتناول المرحوم محمد البهى قضية العلمانية والإسلام في الفكر، ويرى أن الإنسان في الإسلام ليس مقدسا، ولا هو منحطا إلى مرتبة الحيوان ، كما أنه لا عصمة له ، وهو يخطىء كما يصيب . ومهما كانت المهمة التي يضطلع بها في هذه الحياة عظيمة أو حقيرة ،فإن طبيعته البشرية تلازمه ورأيه واجتهاده يلزمانه وحده دون غيره. ولا دخل للعلمانية في التصور الإسلامي للإنسان ، هذا فإما أن يوجد الإسلام ولا علمانية ، أو توجد العلمانية ولا إسلام .
و يرى أنه من القصور في فهم طبيعة الإسلام يزعم بعض المسلمين المعاصرين أنه يمكن التوفيق بينهما رغبة في محاكاة حلول في تفكير الغرب لمشاكل هي وليدة البيئة الغربية نتيجة الصراع فيها على السلطة من أجل التفرد بالقوة في كل جوانبها في هذه البيئة .
وهو يرى أن العلمانية تنسب على غير قياس إلى العالم ، وهي نظام من المبادىء والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان والعبادة الدينيين ، وهي بهذا ترى بأن الدين والشؤون اللاهوتية أو الإكليركية الكنسية ،والرهبنة لا ينبغي أن تتدخل في أعمال الدولة خصوصا بما في ذلك التعليم العام .
والتحول إلى العلمانية في بلاد الغرب هو تحول من الملكية الدينية إلى الملكية المدنية أو من الاستعمال الديني للحياة إلى الاستعمال اللاديني أو المدني .
وفي البيئة الغربية توجد ثنائية الدولة التي تعتبر الحياة بالنسبة إليها غير مقدسة، والكنيسة التي تعتبرالحياة مقدسة بالنسبة إليها ، ويوجد صراع بينهما فالأولى تريد توسيع سلطتها كما أن الثانية تريد الحفاظ على ما كان لها من سلطة لقرون ، وبين هذا وذاك هناك حياة مدنية علمانية خاضعة للتغيير والتطور، وحياة دينية كنسية في منآى عن التغيير والتطور.
ويرى الدكتور البهى أن الكنيسة كادت تكون صاحبة السلطة المسيطرة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى اكتشف حصلت الكشوف العلمية الكبرى مما جعل الإنسان الأوروبي ينحو نحو الاستقلال أو التخلص من سلطة الكنيسة ، التي كانت ترفض نتائج تلك الكشوف العلمية من أجل المحافظة على سلطتها .
ومن أجل إيجاد تفاهم بخصوص حل التنازع على السلطة بين الدولة المدنية والكنيسة أو بين ما هو دنيوي غير مقدس وديني مقدس، نشأ تصور اقتسام السلطة بين الطرفين حيث تكون الشؤون السياسية والاقتصادية والتعليمية والتشريعية للدولة ، بينما تكون الأحوال الشخصية من زواج ، ووفاة ، وتدين للكنيسة، وهذا التقسيم أخذ اسم علمانية والتي مرت أول الأمر بمرحلة اعتدال وذلك خلال القرنين السابع والثامن عشر ، ثم مرت بمرحلة تطرف خلال القرن التاسع عشر . أما في مرحلتها المعتدلة فكانت تعتبر الدين أمرا شخصيا لا دخل للدولة فيه ، وأما في مرحلتها المتطرفة وهي مرحلة ما يسمى بالثورة العلمانية أو المادية المتطرفة التي تعتبر هدم الدين ضرورة ليكون الإنسان في العالم سيد نفسه لأن الدين يسلبه وعيه بمأساته وشقائه ، ويمنّيه بعالم آخر أفضل في حياة أخرى .
ولقد أشار الدكتور محمد البهى إلى أنه بالرغم من تبني البيئة الأوروبية والغرب عموما العلمانية ، فإن بعض الدول لا زالت تحمي العقيدة المسيحية كما هو شأن بريطانيا مع العقيدة البروستاتية ، وكما هو شأن فرنسا التي لا زالت تحمي العقيدة المسيحية الكاثوليكية ، في حين لا زالت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدعم المدارس والمعاهد الدينية المسيحية ، ولا تمنعها من التدريس وفق برامجها التعليمية الدينية بعيدة عن مراقبة الدولة ، وهي أكثر من ذلك تخصص لها ميزانية للإنفاق على أنشطتها . ويذكر أن كل الدول الأوروبية بما فيها التي نادت بالعلمانية المتطرفة فيما كان يعرف بالمعسكر الشرقي عمدت إلى حسن العلاقة مع دولة الفاتكان .
وفي معرض حديثه عن الطورين اللذين مرت بهما العلمانية الغربية، سرد الدكتور البهى أسماء العديد من منظري العلمانية فلاسفة ومفكرين ، وما كان بينهم من تفاوت في التنظير لا داعي للإثقال بذكره على القراء الكرام .
وسجل الدكتور البهى موقف الإسلام الرافض للعلمانية باعتبارها نتاج صراع في البيئة الأوروبية الغربية حيث نشأ صراع على السلطة بين الدين واللادين . ونقض الإسلام للعلمانية يتجلى عنده من خلال فكرة توحيد الخالق سبحانه وتعالى التي ترفض كل أشكال الشرك به مهما كانت طبيعته ، وهو ما سوّى بين الناس من حيث جواز الخطأ والصواب في تفكيرهم وسلوكهم وتصرفاتهم باستثناء من عصم سبحانه وتعالى من رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا يعني أنه لا وجود في الإسلام لحكومة إلهية مكونة من مجموعة بشرية مهما بلغوا من درجة العبادة بل هي حكومة بشرية خاضعة لمنطق الصواب والخطأ. وفي حال وقوع الخلاف بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، يرجع الجميع إلى نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية المشرفة . ولا وجود في الإسلام لصراع على السلطة في المجتمع الإسلامي على أساس وجود فيه من لهم قداسة ، ومن ليست لهم هذه القداسة كما كان الشأن في البيئة الغربية حيث نشأ الصراع بين الكنيسة التي يعتبر أفرادها مقدسين والدولة التي لا قداسة لأفرادها.
وبعد استعراض نماذج من حضور الإسلام في كل مجالات الحياة لا داعي أيضا لعرضها في هذا المقال ،يرى الدكتور البهى أنه لو وجد الإسلام في تلك البيئة الأوروبية ما ظهرت العلمانية أصلا ، ولما نشأت فكرة الصراع على السلطة بين الكنيسة والدولة .
ويذكر أن طلب تطبيق العلمانية في مجتمع إسلامي من طرف حاكم ، سببه عدم أهليته للحكم ، ومحاولة تهربه من مسؤولية يلقيها على عاتقه الإسلام من خلال إلزامه بالاستقامة في سلوكه ، وأداء الأمانة في مسؤوليته ، والتزامه بالعدل ، واحترامه للشورى ، وتجنبه الاستبداد والتسلط .
كما أن طلب تطبيق العلمانية في مجتمع إسلامي من طرف مفكر ،سببه قصور في معرفته بالإسلام ، وهو إنما يخادع نفسه ، ويخادع غيره بعرض قضايا لا يدرك سوى أشكالها ، بينما يجهل جوهرها وغاياتها .
ونفس الطلب من جاء من طرف أفراد عاديين ، يكون سببه هو الرغبة في التحلل من القيم الأخلاقية الإسلامية السامية والإقبال على الشهوات التي تنادي العلمانية بإطلاق العنان لها .
ويقول بعد ذلك إنه لا يمكن وجود دولتين داخل المجتمع المسلم واحدة مدنية بدنيا بلا دين ، وأخرى دينية بدين وبلا دنيا .
و في الأخير ينصح الدكتور البهى بدراسة الإسلام دراسة واعية من طرف علماء الأمة الإسلامية قبل العامة من خلال كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكون النهل منهما مباشرة لمعرفة حقيقته منعا للوقوع في إسقاط واقع البيئة الغربية على واقع البيئة الإسلامية كما ينادي بذلك من يجهلون حقيقة الإسلام ويقيسونه على الدين الكنسي .
وسوم: العدد 911