مفهوم جديد لهوية الإنسان
كل الناس – إلا قليلاً منهم – يظنون أن هويتهم هي: تلك البطاقة التي يحصلون عليها من دائرة النفوس، أو من قسم سجلات المواليد في وزارة الداخلية، مكتوب عليها اسمهم، واسم أبيهم، واسم أمهم، وتاريخ ميلادهم، ومكان سكنهم ورقمه، والرقم الوطني، وصورتهم الشخصية، وغيرها من المعلومات الشخصية، التي تثبت حالتهم المدنية، والولادية، وتثبت كينونتهم الشكلية، والعضوية! لكي تتميز الفوارق الخَلقِية بين إنسان وآخر.
وبشكل مختصر، هي عبارة: عن وثيقة معلومات شخصية، عضوية، تفريقية بين إنسان وآخر، لا غير، ولا تحمل أي امتيازات خاصة، تميزها عن الآخرين!
وهذا التصور! خاطئ خطأً فادحاً، وفاحشاً، ومستنكراً، لا يليق بالإنسان المكرم، الذي وصفه رب العزة والجلال بقوله: ( وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ) الإسراء 70 .
لأنه حتى الحيوان، يحصل على هذه البطاقة الشخصية المعلوماتية، إذ لا يمكن نقل كلب أو قطة، من بلد إلى آخر براً أو بحراً أو جواً، بدون أن يحمل هذه البطاقة، إضافة إلى جواز سفر أيضاً.
وهذه البطاقة الشخصية، ليست خاصة بفئة معينة من البشر، بل هي تُعطى لكل مولود على وجه الأرض، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها دون استثناء، لا اختلاف بين أبيض أو أسود، ولا أحمر أو أصفر، ولا بين عربي أو أعجمي، ولا بين مؤمن أو كافر!
فجميع سكان الكرة الأرضية، يتلقون تلك الوريقة، التي تحمل المعلومات الوصفية، والعرقية، والعضوية للإنسان، ولون العيون والبشرة، والطول والوزن، وفوارق الإعاقة – إن وجدت – على السواء، دون استثناء!
هذه الوريقة المحدثة، المبتدعة، التي نشأت منذ مائة سنة أو يزيد قليلاً، ما حصلت إلا بعد القضاء على الدولة العثمانية، وتمزيق أراضيها إلى دويلات صغيرة، بمعاهدات بين بريطانيا وفرنسا، كمعاهدة سايكس بيكو، ومعاهدة لوزان وغيرها، وبعد تشكيل الحدود والحواجز بين تلك الدول، ومنع أي إنسان من الانتقال من بلد إلى أخر، إلا بهذه الوريقة، إضافة إلى دفيتر يسمى جواز السفر!
إذاً ما هي هوية الإنسان؟!
هوية الإنسان الحقيقية! والتي تميزه عن غيره من الناس جميعاً هي: عقيدته، ودينه، وفكره، وخلقه، ومبادئه، واهتماماته في الحياة، وتطلعاته، وطموحاته، وسلوكه، ومنهج حياته.
الهوية هي: القِيَم والمثل العليا، التي يتحلى بها الإنسان، والمبادئ والأهداف، التي يرنو إلى تحقيقها، والطموحات الكبيرة، التي يسعى إلى الوصول إليها، والآمال والأماني العظام، التي يصبو إلى نيلها.
الهوية هي: روح الإنسان وعقله، وقلبه ودماغه ونفسه، التي بين جنبيه، وهي الملهم له، والمحفز والدافع له، للقيام بأعمال عظيمة، ومتميزة وراقية.
الهوية هي: القمة السامقة، وهي ذروة الجبل الأشم، بل هي المجرة السابحة في الفضاء، التي ترنو إليها عيون عشاق المجد، والسؤدد والفخار، وعشاق الإباء والكبرياء، لمعانقتها.
فالهوية هي: قيمة معنوية إنسانية عالية، تتمثل في التقوى، التي ذكرها العليم الخبير في كتابه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ الحجرات 13.
<< فالتقوى هي: العلامة الفارقة المميزة، بين الناس جميعاً >>
<< وهوية الإنسان المسلم هي: إيمانه بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله، وأنه لا معبود في هذه الحياة الدنيا بحق، إلا الله وحده >>
وأن تترجم هذه الشهادة، إلى سلوك عملي، ومنهج حياتي يسير عليه، وأن تكون عقيدته يقينية وقطعية وحاسمة، وجازمة بأن الإسلام هو: الدين الوحيد والأوحد المقبول عند الله عز وجل، وما سواه، عبارة عن أديان، وعقائد شركية، وثنية محرفة، غيرها وبدلها أهل الكتاب (مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) النساء 46.
وهذا كلام رب العالمين الخبير البصير: (إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ) آل عمران 19.
(وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ) آل عمران 85.
وهوية المسلم: أن يؤمن إيماناً يقينياً، بأنه لا حاكم إلا الله، ( إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِیَّاهُۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ) يوسف 40.
يعني بكلام أوضح، أن كتاب الله (القرآن) هو الحاكم لهذه الحياة، بكل شؤونها الفردية، والأسرية، والمجتمعية، والاقتصادية، والزراعية، والتعليمية، والقضائية، وسياسة الحكم الداخلية والخارجية، والعلاقات الدولية، وتنظيم شؤون الإدارة، في جميع دوائر الدولة.
وأن يكون منصوصاً في دستور الدولة، في المادة الأولى، أن الشريعة الإسلامية بكافة مصادرها هي: المصدر الأول والرئيسي للتشريع، وإصدار القوانين، وليس هي مصدر من مصادر التشريع – كما يُذكر في كل دساتير الدول المتأسلمة، ومع ذلك تبقى حبراً على ورق لا يُؤخذ منها شيء - وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو: القدوة الأولى في جميع شؤون الحياة، صغيرها وكبيرها، دقِها وجُلها، وأن يكون هو المحبوب الأول، أكثر من محبة الإنسان لنفسه، كما ورد في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك ( لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهُما،.........ولا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى أكونَ أحَبَّ إليه مِن وَلَدِه، ووالِدِه والنَّاسِ أجمَعينَ.).
ونفس الأمر بالنسبة للجنسية، فكل الناس – إلا قليلاً منهم – يظنون أنها عبارة عن دفيتر يحصل عليه الإنسان من دائرة الجوزات في بلده، وعليه صورته الوضيئة المشرقة اللامعة، ومطبوع عليه كافة معلوماته الشخصية الخاصة، التي سبق وأن طبعت على بطاقة، أو ورقية الهوية، وبواسطة هذا الدفيتر المسمى جواز سفر، يتنقل من بلده إلى بلد آخر، بعد أن يضع إذن الدخول، أو ما يسمى التأشيرة عليه، من سفارة البلد الذي يريد أن يذهب إليه.
أما الحقيقة الساطعة الصارخة بالنسبة للمسلم، فجنسيته هي عقيدته، ودينه، وإيمانه بربه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، وهو يشكل مع غيره من المؤمنين، أمة واحدة، ولو كانوا مبعثرين ومشتتين في أرجاء المعمورة، لأن قول الله هو الحق المبين (إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ) الحجرات 10.
وبهذه الصورة المضيئة، تشكل وتكون وتأسس المجتمع المسلم الأول، منذ بداية الدعوة، من العربي أبي بكر وعمر، ومن الحبشي بلال، ومن الرومي صهيب وخباب، ومن الفارسي سلمان!
لم يكن يعتز أي واحد منهم، بأن هويته وجنسيته، هي بلده الذي جاء منه، والذي جاء إلى مكة، فراراً من ظلمه وجبروته وطغيانه، وأعلن إيمانه بالدين الجديد، وانتماءه إلى الله ورسوله!
وارتبطت مباشرة بين أفراد هذا المجتمع الوليد، وشيجة الإيمان، والعقيدة الإسلامية، التي هي أقوى وأمتن وأصلب، من وشيجة الأهل والقربى، ووشيجة الأرض والتراب!
ولهذا أثنى الله عليهم، ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومغفرة منه: (لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ) المجادلة 22.
إن هوية العقيدة والفكرة، والدين والإيمان، هي التي تليق بالإنسان، وتجعل منه إنساناً مكرماً حقاً، وترفع من قيمته، وتُعلي من مكانته، وتأخذ به إلى أعالي الفضاء، يسبح هناك بين الثريا والشهب والنجوم!
بينما على العكس! هوية الأرض التي ولد فيها، ونشأ وتترعرع فيها، لا تجعله إلا فرداً من القطيع، يهيم على وجهه، لا يميزه عن بقية القطيع شيء!
الخلاصة إذاً:
إن المفهوم الصحيح لهوية الإنسان، والجدير بحمله، واللائق بأن يتزين به، ويتباهى به، كإنسان كريم مكرم عند الخالق هو: عقيدة وفكرة ومبدأ، وشمائل خلقية رفيعة عالية، وسجايا حسنة، تسمو على الأرض والتراب، الذي وُلد عليه الإنسان!
وسوم: العدد 914