دانييل بايبس: رثاء المحافظين على سبيل كراهية العرب
التيارات المحافظة في الولايات المتحدة ليست اليوم على حال تسرّ خاطر ممثليها وأنصارها، حتى قبل هزيمة الجمهوري دونالد ترامب وفوز الديمقراطي جو بايدن، وقبل لجوء خليط من حشود محافظة وعنصرية وانعزالية إلى اقتحام مبنى الكابيتول. فالعقود الأخيرة، وليس السنوات أو التطورات الأحدث عهداً، سجّلت تراجعاً ملحوظاً، لعلّ ذروة انحنائه نحو حافة المحاق الوشيك كان اندحار التنظيرات التي اقترنت مع غزو العراق سنة 2003 والتبشير بنقل «فيروس الديمقراطية» إلى بلدان الشرق الأوسط والمجتمعات الإسلامية/ الشرقية/ الآسيوية كافة. ومَن آخر المتباكين على انقلاب المحافظين إلى «ضبع كريه» بعد عزّ وسؤدد خلال القرن العشرين، سوى دانييل بايبس، دون سواه: الكاتب الأمريكي اليهودي، المحافظ واليميني، المتباكي على رحيل ترامب؟
وكيف لا يكون حزن بايبس على انحسار التيارات المحافظة تتمة تلقائية، ومنطقية منهجية، لرجل أدمن كراهية العرب، وقبلهم المسلمين، ليس من منطلقات خوافية استيهامية عنصرية من الطراز الرائج على نطاق واسع في الغرب، فحسب؛ بل كذلك، وأوّلاً، لأنّ الرجل صهيوني العقيدة، إسرائيلي الانحياز (الأعمى، المطلق، الأقصى…) ليكودي الهوى (في زمن يشهد ندرة «أصلاء» الليكود بمعزل عن قارعي الطبول خلف بنيامين نتنياهو في مسيره نحو محاكم الفساد)؟ وكيف، في مزيد من التباكي، لا يربط محاق التيارات المحافظة بتبدلات كبرى طرأت على «المؤسسة الأمريكية» القياسية والمثالية والتاريخية، ذاتها: جامعة هارفارد (تأسست سنة 1636) وصحيفة «نيويورك تايمز» (1851) ومعهد بروكنغز (1916) ومجلس العلاقات الخارجية (1921) و«مؤسسة فورد» (1936)؟
هذه، ومنذ 40 سنة في تقدير بايبس ضمن مقالة نشرتها «واشنطن تايمز» مؤخراً، هي اليوم مؤسسات ديمقراطية من حيث التوجه الحزبي، ذات نزعة تقدمية، تميل إلى التجريب الاجتماعي، والضرائب العالية، والتغيير. لكنّ هارفارد اعتادت، في الماضي، توظيف أساتذة محافظين، كانت «نيويورك تايمز» تنشر مقالاتهم، وتستضيفهم «بروكنغز» ويدعوهم مجلس العلاقات الخارجية إلى ترؤس اجتماعاتها، وتموّلهم مؤسسة فورد. وهكذا، يتابع بايبس، لا تتورع مجلة Psychology Today عن القول بأنّ «النزعة المحافظة شكل من الجنون» أو يرى بعض اليساريين أنّ المحافظين غلاة متسلطون و«ناكرو تغيّر المناخ» في ما يحيل إلى ناكري الهولوكوست.
وقائع أخرى، لا يعفّ بايبس عن ضربها كأمثلة لا تصوّر انحسار التفكير المحافظ بقدر خضوعه للاضطهاد والتنكيل: المعلّق كيفن وليامسون انتهى عمله في مجلة The Atlantic قبل أن يبدأ، لأنّ تحرير المجلة لم يهضم آراءه حول الإجهاض؛ وجامعة ماساشوستس طردت الطالب لويس شنكر، لأنه تجرأ على مناصرة ترامب ودولة الاحتلال الإسرائيلي. جامعة نورثوسترن أنكرت جوزيف إبستين، الذي درّس فيها 28 سنة، وأسقطته من موقعها الإلكتروني لأنه نصح السيدة الأولى جيل بايدن ألا تطلق على نفسها صفة دكتورة… والناظر إلى أمثلة بايبس لا يصدّق أنه يتحدث عن أمريكا التي يعرفها القاصي والداني: هذه التي تطرد طالباً لأنه إسرائيلي الهوى؟ نعرف أنّ العكس هو الصحيح، إذْ أنّ عدم نصرة دولة الاحتلال، أو التعاطف مع القضية الفلسطينية، هو الذي يعرّض للمساءلة!
وعلى مستويات أخرى، يشير بايبس إلى أنّ «المؤسسة الليبرالية» أي تلك الموازية للمؤسسة المحافظة طبقاً لتشخيصاته، تنامت وانتعشت بقوّة: نسبة القبول في كلية هارفارد تناقصت من 82٪ في سنة 1933 إلى 20٪ في سنة 1965 وإلى 5٪ اليوم؛ و«مؤسسات أمريكا الجديدة» مثل أمازون وفيسبوك وغوغل، تخلّت عن مبادئها التحررية وصارت أكثر اقتراباً من اليسار. ليس هذا فحسب، وهنا أعجوبة رأسمالية لا يتجاسر عليها سوى أمثال بايبس: تفوّق اليسار على المحافظين في حجم التبرعات، وبالتالي الاستئثار بصناعة السياسة العامة، بنسبة 3.7 إلى 1٪؛ وهذا ينسحب، أيضاً، على ميادين التعليم والفنون وسواها. هذا الانعدام في تكافؤ المصادر قابل للتفاقم أكثر، لأنّ الأثرياء، يا للعجب هنا أيضاً، أكثر ميلاً إلى اليسار، في حين أنّ «المحافظين يفضّلون رعاية حدائقهم الخاصة»!
وما دمنا في الذكرى العاشرة لانطلاقة انتفاضات العرب، جديرة بالاستعادة تأويلات بايبس لحراك الشارع العربي وحصره في ما اسماه «الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية» تارة، أو «الشطرنج الإقليمي» طوراً؛ ولكن ليس، البتة، إلى إرادة الشعوب، والتعطش إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، إزاء قبائح أنظمة الاستبداد والفساد. وبين «التمرّد» و«العصيان» وليس الانتفاضة أو الثورة، اقترح بايبس ثلاثة مستويات من «التأمل»:
الأوّل هو أنها ثمرة تصارع فريقَيْ الحرب الباردة الإقليمية: معسكر إيران و«المقاومة» الذي يضمّ سوريا وتركيا وغزّة ولبنان، ويسعى إلى «هزّ أركان النظام القائم، واستبداله بآخر إسلامي أكثر تقوى، وأشدّ عداء للغرب»؛ ومعسكر السعودية، وهو صفّ «الأمر الواقع» الذي يضمّ معظم ما تبقى من دول المنطقة، بما في ذلك دولة الاحتلال، و«يفضّل الحفاظ على الأمور كما هي، في قليل أو كثير». المعسكر الثاني «يتمتع بخاصية تقديم رؤية» والمعسكر الأوّل يتميز بـ«القدرة على نشر المدافع، والكثير منها».
المستوى الثاني هو أنّ «التطورات» في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين ذات مغزى كبير، ولكن المغزى الأكبر هو في ما ينتظر «العملاقين» قائدَي المعسكرين، إيران والسعودية. صحيح أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية في حزيران (يونيو) 2009 على خلفية الانتخابات الرئاسية؛ إلا أنّ النار ما تزال تحت الرماد، وانهيار «نظام الخميني» ليس بعيد الاحتمال، وعواقب حدث كهذا تشمل أمن دولة الاحتلال، والأمن النووي في المنطقة، ومستقبل العراق، وسوق الطاقة الدولي، و«معسكر المقاومة» ذاته في المقام الأوّل. ورغم أنّ السعودية تتباهي بنظام مستقرّ، تقوم ركائزه على «مزيج فريد من العقيدة الوهابية، والسيطرة على مكة والمدينة، واحتياطي النفط والغاز» إلا أنّ «الفوارق الجغرافية والإيديولوجية والشخصية بين السعوديين يمكن أن تتسبب في انهيار النظام».
مستوى التأمل الثالث، والأهم في نظر المتأمل بايبس، هو أنّ «حركات التمرّد» العربية الأخيرة بدت «بنّاءة» و«وطنية» و«ذات روح مفتوحة»؛ فغاب عنها «التشدد السياسي في كلّ أنواعه، اليساري منه أو الإسلامي» وكذلك غابت الشعارات المناهضة للولايات المتحدة، وبريطانيا، ودولة الاحتلال! فما الذي يقرأه بايبس في ما يزعم من خصائص، يراها جديدة على الشارع العربي؟ أنها، ببساطة، انفكت تماماً عن «تشدد القرن الماضي» كما صنعه رجال من أمثال المفتي أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، آية الله الخميني، ياسر عرفات، وصدّام حسين.
والحال أنّ خطاب بايبس لم يتغيّر، ولا يلوح أنه سوف يتغيّر، إلا نحو الأكثر ضحالة وسطحية وسوء طوية. رثاء النزعات المحافظة الأمريكية لا يصحّ أن ينفصل اليوم عن تنظيراته السابقة حول مديح توجهات «المحافظين الجدد» في رئاسة جورج بوش الابن وقبل غزو العراق، بصدد إيقاظ العرب والمسلمين من رقاد خارج التاريخ، في حاضنات «الإرهاب الإسلامي» وحدها. واليوم، كما في كلّ «رثاء» يمارسه بايبس، فإنّ أطروحته المركزية هي هذه: «المسلمون دخلوا في غيبوبة خلال القرنين الماضيين، وهي محنة أهل الله الذين وجدوا أنفسهم في أسفل الركام. ولا غرو أنّ بلاد الإسلام تضمّ معظم الإرهابيين والحجم الأقلّ من الديمقراطيات في العالم».
ولا عجب، في استكمال المعادلة المتلازمة، أنّ بايبس لا يتباكى على ترامب وحده، بل يحثّ الشارع الإسرائيلي على النظر بعين العطف إلى «صديقي نتنياهو» في محنته أمام القضاء: «لا تريدونه رئيس حكومة، حسناً، ضعوه في موقع الرئيس!»؛ يكتب بايبس، في استباق تسطير المرثاة التالية!
وسوم: العدد 916