حسرة الظل، القراءة الثانية
القراءة الثانية من كتاب ( حسرة الظل / تجارب في الشعرية النادرة والبساطة الجميلة ) للشاعر والروائي والناقد " محمد الأسعد " .
تقرأ الثانية تجربة الشاعر الياباني ( ماتسو باشو ) مكتشف الجمال في الطبيعة والحياة , وصانع قصيدة الهايكو كما عرفتها الأزمنة الحديثة , تزايدت في السنوات الأخيرة التلميحات والإشارات الى قصيدة الهايكو اليابانية في الثقافة العربية , ممثلة بأشهر شعرائها ( ماتسو باشو / 1644 – 1694 ) , أن العالم وعالم الغرب بخاصة انتبه الى هذه القصيدة وتزايد احتفاء شعرائه بها , محاكاة ودراسة في وقت متأخر لا يكاد يتجاوز ثمانينات القرن العشرين .
قبل زمن شاعر الهايكو الكبير " ماتسو باشو " كانت القصيدة المسماة " هايكاي " لعبة متمدنة لتزجية الوقت اكثر مما كانت شعرا ً جادا ً , وكان مطلعها المسمى آنذاك " هوكو " والذي سينفصل عنها في ما بعد ويستقل تحت أسم " الهايكو " جزءا ً منها , واستطاع " باشو " بحساسيته الأدبية الحادة وسيطرته المتمكنة على اللغة استكشاف كل الممكنات الهاجعة في هذا الشكل الشعري , كان مستكشفا ً جريئا ً كما يقول عنه " ماكو إيدا " فقد استخدم الكلمات العامية واستعار من اللغة الصينية الكلاسيكية , وكتب هوكو بثمانية عشر أو تسعة عشر مقطعا ً أو اكثر , بل والأكثر أهمية أنه سعى الى جعل الهوكو تستجيب للتجربة الإنسانية الفعلية لما رأى وفكر وشعر بنزاهة وإخلاص نادرين , وكان لديه ثقة عالية بإمكانية الإنسان على أن يعتنق ديانة إنكار الذات , فسبر في بحثه المكثف عن مخطط قابل للتطبيق , اعماق الطاوية وبوذية الزن , وفي نهاية المطاف وجد , أو اعتقد انه وجد ما التمسه في ما سماه " فوجا " أي طريقة حياة الفنان , وهي طريقة نسك ٍ مكرسة تسعى وراء حقيقة أبدية في الطبيعة .
قصيدة الهايكو وهذا هو الأسم الذي أصبحت تعُرف به الهوكو في القرن التاسع عشر , والتي أصبحت تتكون من سبعة عشر مقطعا ً , تتطلب مشاركة فعالة من اولئك الذين يقراؤنها , لأن الشاعر يترك القصيدة غير مكتملة , أو هكذا يبدو , ومن المتوقع من كل قاريء ان ( يكملها ) بتفسير شخصي , فلنبدأ بهذه القصيدة :
عتمة البحر نداءُ بطة بريّة شاحب البياض
يقول الناقد ( هاندا ) أن هذا التركيب يمكن أن يكون بصيغة معتادة كما يلي :
عتمة البحر شاحبة البياض نداء بطة بريّة
ولكن ( باشو ) يتعمد إحداث قلبا بين العبارة الثانية والثالثة , انه يختار ان يستمر بسلاسة مع مقاطع السطر الثاني الخمسة لينتهي بقوة بسبعة مقاطع في السطر الثالث وكانت النتيجة أن لغة القصيدة لم تتابع فقط بل وحلقت إحساسا ً قويا ً بالاستقرار .
أما الناقد ( كومي يا ) فيرى أن ما هو صارخ في هذه القصيدة هو تلفظ السطرين الأخيرين حيث توصف ظاهرة سمعية بتعابير بصرية , وقد أنجز الرمزيون الفرنسيون الكثير بهذه الوسيلة , ولكن من الواضح أن ( باشو ) لم يتعلم هذه الطريقة منهم , بل منح الانطباع الذي شكله بوساطة حساسيته تعبيرا ً مباشرا ً وأمينا ً , وانتج قصيدة حية لا شيء مصطنعا ً فيها وغير طبيعي , ويتوسع ناقد آخر هو ( أواتا ) فيقول ( إن البخار الأبيض الشاحب فوق البحر ونداء البطة البرية امتزجا في مدركات الشاعر الحسية , بالطبع , العين هي التي شاهدت البياض , والأذن هي التي سمعت الصوت , ولكنه شعر كما لو أن عينيه شاهدتا ما سمعته أذناه , وحول ّ هذا الشعور العذب الى قصيدة ) .
وينبه الناقد ( اوجاتا ) القاريء بأن عليه أن يدرك أن سطر ( نداء بطة بريّة ) يكثف مشاعر حنين وشجن الشاعر الجوّال الذي مازال يتجول بين الطرقات مع نهاية العام وقد ركز شراح الشاعر السابقون على تعبير ( شاحب البياض ) وغفلوا عن هذه النقطة , واخيرا نجد لدى الناقد ( كونيش ) استطرادا ً لافتا ً للنظر يقول : ( أسلوب هذه القصيدة وصفي , وهو أسلوب غير موجود في قصائد الشاعر المبكرة إنها تصف مشهدا ً وصفا ً موضوعيا ً من دون ادخال عاطفة من العواطف مثل السعادة أو الأسى , إلا أن هذا النهج لا يجب أن يُخلط بمبدأ ( شاسي ) أي مبدأ الواقعية الذي أصبح رائجا ً في اوائل القرن العشرين بعد ان وفد بتأثير الواقعية الغربية , فهذا المبدأ لم يظهر في الأدب الغربي حتى القرن التاسع عشر , ومن الواضح أن ( باشو ) أستمد هذا المبدأ من الراهب ( فوكوجاوا ) حين بدأ يدرس بوذية الزن , وكان رهبان هذه البوذية يجيدون وصف المشهد وصفا ً موضوعيا ً بكلمات قليلة ويجسدون في هذا الوصف حقيقة كونية .
تعليق :
يؤكد ( الأسعد ) في هذا الشرح إشارة أو تلميح الى ما يمكن أن يسمى " تراسل الحواس " أي التنافذ بين مجالات الحواس سواء كانت سمعية أو بصرية أو حسّية وهذا التنافذ يكسب اللغة وظيفة غير معتادة تكون معها قادرة على القبض على أشد لونيات المشاعر رهافة , لقد انزاح تركيب السطور عن المعيار المعتاد كما أشار ( هاندا ) فتحول الى تركيب ذي دلالة مختلفة عن الدلالة المألوفة , يبدو أن السبب حدسي قبل أن يكون فكرة ذهنية , فهنا ليس مجرد تحويل السمعي الى بصري , بل إقامة مسافة توتر قائمة على تضاد بين العتمة والبياض وبينهما النداء , نداء البطة البريّة , المتحرك الذي يصل بين الأثنين , بين المعتم البعيد والبياض القريب , وقد أقتضت الحالة النفسية هذا التركيب كحدس شعري , فارتسمت العتمة للوهلة الأولى ثم النداء القادم من بعيد ممتدا ً مثل امتداد البياض ومتلامحا مثله .
هو الربيع تل بلا اسم في الضباب الخفيف
هذه القصيدة , مع أنها تبدو واضحة , كما يقول الناقد ( اوتسوجو ) إلا أن وضوحها من النوع النادر , أما أرضيتها فيرجعها الناقد ( اوجاتا ) الى تقليد كلاسيكي , حيث دأبت أجيال من الشعراء على تبين قدوم الربيع حين ترى الضباب معلقا ً فوق الجبل ولكن الناقد ( ياماموتو ) يلتفت الى صوت كلمات القصيدة الناعم , فيرى أن هذه الكلمات تحثنا على رؤية بصرية , على رؤية الخطوط الخارجية المرهفة لتلك التلال في مقاطعة ياماتو .
تنوير : لدينا ما يسمى بالأصالة , بمعنى الصدور عن موروث , ولكن حين يكون الموروث أرضية , أي تقليدا ً كلاسيكيا ً بتعبير ( اوجاتا ) فأنه يتجاوز مجرد الصدور عن موروث أو محاكاته , الشاعر هنا يأخذ مرور الزمن في اعتباره في الوقت الذي يرتبط فيه بالصورة الكاملة للموروث الشعري , ولكن مع أخذه في طرقات جديدة والاطلالة به على مشهد جديد , ( باشو ) هنا كما يرى ( الأسعد ) لا يمسك بنافذة التقاليد الكلاسيكية ليطل منها على المشهد نفسه التي كانت تطل عليه , بل يستخدم النافذة نفسها ولكن ليطل على مشاهدة جديدة , هذا أمر منطقي وطبيعي , لأنه متحرك في الزمن , كلما فكر بالماضي فكر بمرور الزمن , لا يكاد ينسى هذا لحظة واحدة , وهذا هو الفرق بين المجدّد الحي الذي يمتلك تراثا ً وبين المحنط التراثي الذي لا يشعر بمرور الزمن .
حين يُقال شاعر أنه كبير , قد يتبادر الى الذهن أنه أصبح فوق النقد , أو أنه بتعبير ساذج قرأناه صغارا ً لعباس محمود العقاد : ( يظل جيدا ً حتى في رديئه ) . إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجمهرة النقاد اليابانيين , فالنزاهة مطلوبة من الشاعر والناقد على حد سواء , ومن هنا لم تمنع مكانة ( باشو ) الشعرية والتاريخية بعض النقاد من رفض بعض قصائده إما بوصفها من الدرجة الثانية أو أنها ترتكب جريمة أسوء من الأنتحال . اليكم هذه القصيدة : شجرة صنوبر
كاراساكي , ضبابها أرق ّ
من براعم الكرز المزهرة
فماذا يرى فيها النقاد ؟ نبدأ بالناقد ( كيوراي ) الذي رأى فيها الكثير من الفكر التأملي , ويضيف ( إن الهوكو ذات الفكر التأملي ستكون قصيدة من الدرجة الثانية , قال باشو كل الشروحات بما فيها شروحات " كيكايو " وشروحاتك , عقلنات , لقد كتبت هذه القصيدة لمجرد انني فكرت أن شجرة الصنوبر الضبابية تبدو أكثر جمالا ً من البراعم المزهرة ) , ولكن الناقد " شيكي " من القرن التاسع عشر كان أكثر قسوة على هذه القصيدة ( تلمح هذه القصيدة وفقا لأحد المفسرين الى قصيدة من النوع المسمى " واكا " للأمبراطور " جوتابا " "1239 – 1180 " ) .
عند كاراساكي
ضبابية أيضا
تضاهي البراعم المزهرة
فجرا ً في يوم ربيعي
ومن الواضح أن قصيدة " باشو " مبنية على قصيدة الأمبراطور , ولكن هذا البناء جاء بالغ البؤس في هذا النموذج الى درجة انه جريمة أسوء من الأنتحال , بالطبع علينا أن نقرأ القصيدة من دون الرجوع الى تلك الواكا , ولكن حتى في هذه الحالة فإن ثانوية القصيدة لا نزاع فيها , ويجب نسيان قصيدة من هذا النوع حفاظا ً على سمعة باشو , يقول " سانجا " هذه القصيدة تفوق الوصف ويتوسع " شوسون " هكذا لا تشير كلمة ( ضبابها ) الى عتمة مساء ربيعي حين تبدو هيئة الأشياء غير واضحة المعالم , وعلى رغم أن الشعراء منذ الأزمنة القديمة تغنوا عادة ببراعم أزهار الكرز المزهرة إلا أن أحدا ً منهم لا يصف شجرة الصنوبر بكونها ضبابية أمام مشهد البحيرة , حيث شجرة الصنوبر وأزهار الكرز ضبابية على حد سواء , نظر ( باشو ) بانتباه وأكتشف جمالا ً جديدا ً في الضباب الذي يغطي شجرة الصنوبر , الوقت في ذلك اليوم مختلف عليه .
تعليق : فكرة أكتشاف الجمال في الموجودات هناهي الأكثر لفتا ً للنظر في حديث شوسون لأن العادة الشعرية الرديئة الجارية في مختلف الفنون هي اقتراح فكرة عن الجمال والجميل لا اكتشافه , ومرة آخرى تعود هنا مسألة الموروث في إتكاء " باشو " على قصيدة الأمبراطور القديمة , ولكن بعد أن أطل بأدواته على مشهد جديد , فأن " باشو " كان ينظر الى المشهد وهو يتلامح في مياه بحيرة كاراساكي مساءاً وليس ليلا ً .
ويشعر " الأسعد " أن تقديم " باشو " لا يكتمل إلا بالوصول الى أكثر قصائد الهايكو شهرة , قصيدة " الضفدع " التي كتبها في العام 1686 , ويبدو أن شهرتها أنطلقت فور كتابتها تقريبا ً لأن السجلات تظهر أن جماعة من الشعراء التقت في كوخ ( باشو ) ذات يوم من أيام أبريل , وأجرت مسابقة تأليف هوكو حول موضوع الضفادع , وبدأ باشو المسابقة بقصيدته هذه التي اطلقت في السباق الذي نشرت نصوصه في ما بعد تحت عنوان " مسابقة الضفدع " وهذه هي القصيدة : بحيرة عتيقة
ضفدع يقفز
بلوب
يقول الناقد " شيكو " كان الأستاذ ( باشو ) في كوخه على ضفة النهر شمالي "ايدو" في ذلك الربيع وجاء صوت الحمام عبر تساقط قطرات المطر الناعم , كانت الريح لطيفة والبراعم المتفتحة ساكنة , وكان يسمع في آواخر الشهر الثالث صوت ضفدع يقفز في الماء, واخيرا ً طفت في ذهنه عاطفة لا يمكن وصفها وتشكلت في سطرين
ضفدع يقفز
بلوب
" كيكايو " الذي كان الى جانبه , وكان من مقربيه , تجرأ وأقترح وضع تعبير " زهور جبل " ليكون السطر الأول , ولكن الأستاذ اختار تعبير " بحيرة عتيقة ويؤكد " الأسعد " بأن " زهور جبل " رغم انها تبدو شعرية ومحببة إلا أن عبارة " بحيرة عتيقة " تمتلك بساطة وجوهرا ً أعمق . وكتب الناقد " موران " هذه القصيدة غامضة غموضا ً عصيا ً على الوصف , إنها عميقة ومرهفة ومحرّرة ولا يمكن أن يفهمها المرؤ إلا بعد سنوات من الخبرة . ويأخذنا " شيكي " الى شيء آخر , إلى أن هذه القصيدة بسبب بساطتها البالغة , من المحال تقليدها : " ما نراه أمر معقد دائما ً, بينما ما نسمعه بسيط عادة , هذه القصيدة لا تعدو كونها تقريرا ً عن ما أحسّت به أعصاب الشاعر السمعية , ولم يتضمن شيئا ً من أفكاره الذاتية أو البصرية أو مجرد صور متحركة , ما يسجل هنا ليس سوى لحظة زمنية , لهذا السبب ليس لهذه القصيدة عمق ٌ في الزمان والمكان . للناقد " أبي جي " تعبير مختزل : " هذه القصيدة مثل ومضة برق تضيء زاوية هادئة " , ولكن الناقد " شيدا " لا يكتفي بالومضة , إنه يحلل الحركة التي التقطها الشاعر , فجأة يكسر الصمت ضفدع يقفز في البحيرة العتيقة , وفي اللحظة التالية ساد الهدوء مرة آخرى , وخلقت النقلة المفاجئة من السكون ( لا صوت ) الى الحركة ( صوت ) , ثم عودة الحركة ( صوت ) إلى السكون ( لا صوت ) وقد تراكبت مع بحيرة عتيقة وضفدع , جوا ً لا نهائيا ً ومتوازنا ً يتسق تماما ً مع العاطفة التي ترددت داخل باشو , إنها ترمز الى أعمق مشاعره , لقد أنتج " باشو " تحت وطأة التأثر العميق هذه القصيدة بالتأمل الى حد كبير .
تنوير : يتابع " الأسعد " بأن الناقد ( ياماموتو ) يقدم تنويرا ً يجعلنا نستغني عن كل تعليق أو تنوير نقدمه من جانبنا : ( على رغم أن ما استهدفه معاصرو باشو لم يكن بعيدا ً عن نمط الدعابات التي جرت عليه مدرسة " دارين " الشعرية , فما لا شك فيه أن دعابات هؤلاء لا يتبعها إحساس ٌ بكآبة وجودية , ومع ذلك لم يعرفوا كيف يحولون هذا الإحساس الى الفاظ هذه الهوكو موجهة تحديدا ً الى تلك النقطة العمياء في فكر أصحاب الدعابات الشعرية ) , والقصيدة تقدم شيئا ً كونيا ً يفتن القاريء مثل ابتسامة , إنها تمتلك شيئا ً تشترك فيه مع الحدث البوذي الشهير الذي يبتسم فيه ( بوذا ) صامتا ً وهو يقلب زهرة بين أصابعه , في هذه القصيدة تمثل الإبتسامة اعلى إنجازات الفكر , مكملة ما بدأ به الضاحك , ويكمن سرّها ربما في الدقة البالغة التي يقبض بها الشاعر على الموضوع ويحكمه .
من هذا نستطيع القول أن قصائد الهايكو تعتمد البساطة والسهولة , وكلما أرتفعت درجة البساطة فيها أقتربت من الجمالية في إثارة الصدمة الجمالية , أن ّ الهايكو يعتمد في أساسه الجمالي ّ على المشهد الحسّي الواقعي الآني ّ , دون أن يعني استبعادا ً تاما ً للصور الذهنية المستقاة من المخيّلة أو الذاكرة , أو الحلم , وتركيبها مع المشهد الحسّي الآني , والواقعية ليست في حسية الصورة أو اللقطة العفوية أو الحدث العفوي , وإنما في بلاغة التعبير عن هذا الشيء المجسد كقيمة جمالية , وهذا يعني الواقع تمثيل للطبيعة كصور حسية مشتقة من الطبيعة ومتعلقاتها .
وسوم: العدد 916