لكل إنسان صيف يضيّع فيه اللبن فيندم ولات حين مندم
من الأمثال العربية السائرة قولهم : " الصيف ضيعت اللبن " بكسر تاء الفعل، وهو مثل يقال للذكر والأنثى جموعا وفرادى ، وهذه طبيعة الأمثال التي يحتفظ بصيغها التي صغيت بها أول مرة ،ولا تبدل لأن ما تعبر عنه من أحوال لا تخص أشخاصا بأعيانهم بل تصدق على كل من تنطبق عليهم في كل زمان ومكان . وحكاية هذا المثل أن امرأة شابة تزوجها شيخ ميسور الحال لكنها أبغضته فطلّقها وتزوجت بعده شابا جميلا لكنه كان فقيرا معدما ، وحدث أن أجدبت السنة ، فجاءت المرأة تطلب من طليقها الشيخ حلوبة فقال لها : " الصيف ضيّعت اللبن " ، وصار قوله هذا مثلا يضرب لكل من يفوّت على نفسه فرصة سانحة لا تعوض ، فيندم على ذلك أشد الندم .
ولا يخلو إنسان في هذه الحياة من أن تضيع منه فرصة لا تعوض ، وقد تكون فرصة العمر التي لا تعوض .
وأكثر من يصدق عليهم هذا المثل بشكل مطابق لمن صدق عليها أول الأمر الأزواج إذا وقع بينهم طلاق يعقبه ندم يحصل لأحد الزوجين أو لهما معا، كما أنه يصدق على الذين يضيعون فرص الزواج لسبب من الأسباب كأن ترى المرأة الراغب في الزواج منها دون فارس أحلامها أو يرى الرجل أن المرأة الراغبة فيه دون فتاة أحلامه ، وبعد ضياع فرصة هذا وتلك يضيّع كل منهما لبن الصيف .
ومعلوم أن زمن الصيف الوارد في المثل على وجه الحقيقة يصير مجازا كل زمن تضيع فيه الفرص ، كما أن اللبن الوارد فيه على وجه الحقيقة يصير مجازا كل فرصة ضائعة مهما كان نوعها مادية أو معنوية .
وممن يصدق عليهم هذا المثل أيضا كل الأزواج الذين يعيشون فترة من حياتهم الزوجية في وئام فيضيعها أحدهما أو كلاهما بنشوز فيندمان عليها كما ندمت التي ضيعت اللبن صيفا . وقد لا يقدر أحدهما قيمة مودة الآخر فيستخف بها حتى إذا زالت ندم عليها أشد الندم .
وليست الحياة الزوجية وحدها التي ينطبق عليها هذا المثل بل ينطبق على علاقات أخرى كالصداقة أو الجوار أو غير ذلك من العلاقات مما يفرط فيه الأصدقاء أو الجيران أو غيرهم ثم يندمون على تفريطهم أشد الندم .
ومما ينطبق عليه هذا المثل أيضا الفرص المتاحة في الدراسة أو الشغل أو الوظيفة أو الصفقات التجارية ... إلى غير ذلك فيضيّعها الذين تتاح لهم فيندمون أيضا ندم التي ضيعت لبن الصيف .
ومما ينطبق عليه هذا المثل أيضا فرص أسفار العمر النادرة التي تسنح ولا تنتهز، فيعقبها ندم شديد . ومع شهرة هذا المثل، فإن أغلب الناس لا يتعظون به ، فيضيّعون على أنفسهم أغلى و أنفس و أندر الفرص في حياتهم .
وغالبا ما يضرب هذا المثل حين تضيع فرص عرض الدنيا الزائل ، ولكنه قلما يضرب لمن يقايض آخرته بعرض الدنيا الزائل فيضيّع بذلك الخلد في الجنة بخلد في الجحيم ،ويندم على ذلك ندما فوق كل ندم ممكن تصوره في الحياة الدنيا ،ولات حين مندم .
وسوم: العدد 918