فقه الدعوة بين المقاصد والوسائل
القيام بالدعوة إلى الله من أشرف الأعمال، فقد قال ربنا سبحانه: (ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله، وعَمِلَ صالحاً، وقال: إنني من المسلمين). {سورة فصّلت: 33}. كما أنه سبحانه قال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (قُل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَن اتّبعني). {سورة يوسف: 108}. فالدعوة مهمّة الأنبياء وأتباعهم، وكفى بذلك شرفاً للدعاة.
ونذكر آية كريمة أخرى تكمّل قواعد الدعوة، وهي قول الله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن). {سورة النحل: 125}.
الآيات الكريمات تذكر جملة من مقومات الدعوة وقواعدها، فالدعوة إلى الله من أحسن الأمور، أو هي أحسنُها، وقولُ الداعية يجب أن يترافق مع استقامة في السلوك: (وَعَمِلَ صالحاً)، وتكون بإعلان الإسلام والاعتزاز به: (وقال: إنني من المسلمين)، والداعية الحق يجب أن يدعو على بصيرة من أمر دينه، فيعلم أن أوامر الله على درجات، فأصول العقيدة مما لا يجوز التهاون فيه أو التردد أو الشك، والفرائض يجب أداؤها بقدر الاستطاعة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاري وغيره. ولا تجب الزكاة على من لم يملك النصاب، والمسلم يصوم رمضان، فإذا كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر، والحج يجب على من استطاع إليه سبيلاً، والجهاد في سبيل الله يسقط عن الضعفاء والمرضى: (ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حَرَجٌ ولا على المريض حَرَج). {سورة النور: 61}. وقد قال عدد من المفسّرين: إنها نزلت في شأن الجهاد.
فإذا قصّر المسلم في أداء فريضة فعليه التوبة والاستغفار، وأما دون الفرائض ففي الأمر سَعة أكبر.
وما يُقال عن الفرائض يُقال عن المحرّمات، فهناك الكبائر والصغائر والشبهات...
والداعية البصير يركّز جهده على الأهم فالأهم، ويجعل من سلوكه أنموذجاً للمسلم المستقيم على النهج. وكم سمعنا عن أناس دخلوا الإسلام إعجاباً منهم بمسلم تحلّى بالتقوى والصدق والأمانة والعفّة... بمقابل أناس محسوبين على الدعوة والدعاة، لكنهم لا يلتزمون أحكام الدين وقِيَمه وأخلاقه... فيُنفّرون الناسَ من الإسلام.
والمسلم يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، (ومَن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً).. ومن مقتضيات الحكمة أن يراعي الداعية شخصية المدعو وظروفه، فالأسلوب الذي يناسب أحد المدعوين قد لا يناسب الآخر. فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بمقاطعة ثلاثة من خيار الصحابة لأنهم تخلّفوا عن اللحاق بغزوة تبوك، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت. فقد كان المجتمع إسلامياً ناضجاً، فمَن قاطعه المجتمع شعر بالوحشة الشديدة، بينما لو قاطع الدعاةُ اليوم مسلماً لمعصيةٍ ارتكبها فقد يجعلونه فريسةً لشياطين الإنس والجن، وقد يؤدي به ذلك إلى مزيد من الانحراف.
ومن البصيرة التي لا يجوز أن تفارق الداعية هي أن يعلم: هل كلمته تجمع الصف المسلم وتقرّب القلوب، أم أنها تسبّب التفرّق والاختلاف. فلقد يرى مأخذاً فكرياً أو فقهياً أو حركياً، على شخصية مسلمة تاريخية أو معاصرة، أو على جماعة إسلامية أو فصيل أو حزب... فلا ينبغي أن يكون موقفه هو التشهير والهزء والطعن والتجريح والغمز... بل النصح والرفق والتعاون في جوانب الخير، وقد قال ربنا سبحانه، لسيّد الخلق محمّد صلّى الله عليه وسلّم: (ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفضّوا من حولك). {سورة آل عمران: 159}. وقال سبحانه: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إن الشيطان ينزغ بينهم). {سورة الإسراء: 53}. وهل من الحكمة والموعظة الحسنة أن يطعن الداعية بعالم من العلماء أو بجماعة مسلمة... لأن اجتهاده في بعض المسائل يخالف ذلك العالم أو تلك الجماعة؟. وبطبيعة الحال فإن تعرية المنافقين وكشف المبطلين الذين يقدّمون الفتاوى المُزوّرة للظالمين الطغاة ليس من هذا الباب، بل هو مطلوب في شريعة الله، كما قال سبحانه: (وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين). {سورة الأنعام: 55}.
والداعية البصير بعد هذا يتخيّر الأسلوب الأجدى والأنفع في تبليغ الدعوة، وفي جذب القلوب، وفي إقناع العقول، وفي تقديم الصورة الناصعة لهذا الدين متمثّلة بسيرة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وسير أصحابه رضي الله عنهم، ثم سير العلماء والفقهاء والدعاة والفاتحين... عبر العصور، ثم من سلوك الداعية نفسه.
ولا شك أن زاد الداعية من علوم الإسلام في التفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية... كلما كان أوفر وأعمق كان عمله أقرب للصواب والسداد، وأنه كلما راقب الله تعالى وتحرّى رضوانه في القول والعمل، كان أقرب للتوفيق في عمله في الدنيا، وأقرب للحصول على رضوان الله سبحانه. (والله يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل). {سورة الأحزاب: 4}.
وسوم: العدد 919