ما أشبه العلمانيين بتجار يعيبون بضاعة غيرهم لتسويق بضاعتهم البائرة
بداية أعتذر لأبي الطيب المتنبي عن اقتباس الشطر من بيته الشعري الشهير الذي يقول فيه: " لكل امرىء من دهره ما تعودا " وأعتذر لسيف الدولة الحمداني فأقول " ودأب عصيد دائما الجهر بالأذى " . كعادته طلع علينا العلماني المدعوعصيد بمقال منشور على موقع هسبريس تحت عمود " كتّاب وآراء " بعنوان : " أصوات من قبر نوال السعداوي " قال في مستهله ما يلي :
"قام معسكر الإسلام السياسي كعادته بترويج خبر مفاده أن أصواتا غريبة صدرت من قبر الراحلة نوال السعداوي، وهو خبر لا ننفيه ولا نكذبه، لأنه يمكن أن يكون صحيحا، ولكم التحليل العلمي لذلك"
والذي يستوقف أولا في كلامه هذا هو وصف خصومه الإسلاميين بأن إسلامهم سياسي، وهو نعت يقدحهم به وكأن معسكره العلماني لا يمارس السياسة . ولئن كانت السياسة سبة، فهي كذلك في كل معسكر وليس في معسكر واحد دون آخر . وبعدما سرد الخبر الذي هو صدور أصوات غريبة من قبر الهالكة نوال السعداوي عمد إلى التمويه عن تكذيبه بما يحدث في قبر الإنسان حين يقبر كما يعتقد المسلمون بناء على تصديق ما جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بتعقيبه بالقول : " وهو خبر لا ننفيه ولا نكذبه لأنه يمكن أن يكون صحيحا " ،وهذا يذكر برد العلامة المغربي مولود السريري على أحد منكري عذاب القبر حيث قال له ساخرا منه : نتمنى ألا يكون هذا العذاب ،ولكنه كائن لا محالة " .
وبعد تظاهر عصيد بأنه لا يكذب الخبر الذي ساقه جاء تكذيبه بقوله : " ولكم التحليل العلمي لذلك وهو كالآتي :
" في علم النفس الإكلينيكي يتحدث الأطباء عن “الوسواس القهري” الذي ينتج عن الخوف الشديد والقلق المفرط والتركيز البالغ على شيء ما حتى يتحول إلى حالة عُصابية، وهو ما يحدث عادة للمتشددين في الدين، فهم من فرط انشغالهم بهذيان الدعاة حول “عذاب القبر” وبالمشاهد المرعبة التي يتخيلونها صباح مساء ويعيشون عليها، ومن فرط اعتقادهم بأنهم يملكون الحقيقة وأن غيرهم في ضلال، يستطيعون سماع أصوات صادرة من المقابر عندما يتعلق الأمر بشخص يكرهونه بسبب معارضته لهم واختلافه عنهم. لأن من شأن ذلك طمأنتهم وتهدئة أتباعهم الذين يعانون من هياج نفسي متواصل "
هذه عادة عصيد وأمثاله من العلمانيين في النيل من الإسلام قرآنا وسنة حيث يتظاهرون بالسخرية من المسلمين وهم في الحقيقة يسخرون مما جاء فيهما من غيب يعتبر الإيمان به واجبا ،لا يصح إيمان مؤمن دون الإيمان به .
وإذا كان عصيد قد تحدث عن إصابة خصومه الإسلاميين بالوسواس القهري، فماذا يمكنه القول عن وسواسه القهري بسبب معارضته لهم واختلافه عنهم ؟ وكيف سيطمئن ويهدىء أتباعه وهو الذي صرح بأنه لا يكذب ولا يصدق خبر صدور أصوات من قبر نوال السعداوي لأن ذلك قد يكون صحيحا . ولا يمكن أن يجتمع قوله هذا مع قوله بالوسواس القهري ، فإما أن يكون الخبر صحيحا أو يكون الصحيح هو الوسواس القهري ، ولكن المنطق العصيدي قد جمع بينهما لأنه يخشى أن تثبت صحة الخبر ، فينهار تفسيره المعتمد على الوسواس القهري.
ومثل عصيد وأمثاله من العلمانيين في خلافهم مع خصومهم الإسلاميين وهو خلاف سياسي لأنهم يحرمون السياسة على هؤلاء ،ولكنهم في المقابل يحلونه لأنفسهم ـ ساء ما يحكمون ـ كمثل تجار يعيبون بضاعة غيرهم لتسويق بضاعتهم الكاسدة . ومن سوء حظ هؤلاء العلمانيين أنهم وجدوا في بلد يدين بدين الإسلام وأهله على وعي تام ببضاعتهم الكاسدة .
ويأبى عصيد وأمثاله من العلمانيين إلا إسقاط صراع العلمانية الغربية مع الكنيسة على صراعهم مع الإسلام ، وهو إسقاط لا يستقيم لأن العلمانية الغربية ردت على تطرف الكنيسة في استبدادها بالسياسة بتطرف مقابل حيث أرادت الاستئثار بالسياسة وحدها دونها بل إنه لا حق للكنيسة في ممارستها وواقع الحال أن دولة الفاتكان المسيحية الموجودة في قلب أوروبا العلمانية يمارس حبرها الأكبر السياسة بامتياز، وتشهد على ذلك أنشطته السياسية التي تنقلها وسائل الإعلام بين الحين والآخر وآخرها زيارته للعراق في مهمة سياسية تم التمويه عليها بالدين .
ومعلوم أن الإسلام الذي لا رهبانية فيه كرهبانية المسيحية أو غيرها من الديانات دين واقعي لا يقصي شيئا مما يوجد في الواقع من سياسة أواقتصاد أواجتماع أوثقافة ... وهو بذلك منهاج حياة ، ولن يكون كذلك إلا إذا عالج كل ما يوجد في هذه الحياة . وتكفي الإشارة إلى آيات الذكر الحكيم التي تناولت قضايا الحرب والسلم وهي من قضايا السياسة ، وقضايا الاقتصاد ، وقضايا الاجتماع ، وما يصدق عن تلك الآيات يصدق أيضا على الأحاديث النبوية الشريفة ، ولا يماري في ذلك إلا جاحد أو مكابر كما يفعل العلمانيون وهم مصرون على ذلك.
وفي الأخير نقول لعصيد لا شك أنك ستلقى الذي كل امرىء لاق كما قال الشاعر ، وحينئذ ستمحص فرضيتك العلمانية القائلة بالوسواس القهري كما ستمحص الفرضية الإسلامية المصدقة بوجود عذاب القبر ،وهو من الغيب الذي لا يصح إيمان من لا يؤمن به .ولقد جاء في كتاب الله عز وجل في سياق الحديث عن آل فرعون : (( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب )) ونحن نسأل عصيد وأمثاله من العلمانيين المنكرين لعذاب القبر عن معنى قوله تعالى : (( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا )) . فعن أي غدو وعشي يتحدث الله عز وجل ؟ ولماذا يعاقب آل فرعون بالعرض على النار غدوا وعشيا ثم يدخلون أشد العذاب يوم تقوم الساعة ؟ وما هو الفرق بين هذا العرض وبين هذا الدخول ؟
وسوم: العدد 922