من جهاد الصحابة في فتح مصر
[مختصراً من كتاب: "الجهاد وأوضاعنا المعاصرة" / ص 92-98
تأليف: حسان عبد المنان المقدسي]
قال ابن عبد الحكم [في "فتوح مصر"]: إنّ المسلمين لما حاصروا باب اليون، وكان به جماعةٌ من الروم وأكابر القِبْط ورؤسائهم، وعليها المقوقس، فقاتلوهم بها شهراً، فلمّا رأى القومُ الجِدَّ منهم على فتحه، والحرصَ، ورأوا من صبرِهم على القتال ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا، فأرسلَ المقوقسُ إلى عمرو بن العاص: إنكم قومٌ قد وَلَجتم في بلادنا، وألحَحتُم على قتالنا، وطال مُقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عُصبةٌ يسيرة، وقد أظلّتكم الرومُ، وجهّزوا إليكم، ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيلُ، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فأرسلوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم، فلعلّه أن يأتي الأمرُ فيما بيننا وبينكم على ما تحبُّون ونحبُّ، وينقطعَ عنا وعنكم هذا القتال قبلَ أن تغشاكم جموع الروم، ولعلّكم أن تندموا إن كان الأمرُ مخالفاً لطِلبتكم ورجائكم.
فلمّا أتت عمرو بن العاص رُسُل المقوقس، حَبَسَهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقسُ، فقال لأصحابه: أتَرَون أنهم يقتُلون الرسلَ ويحبسونَهم، يستحلّون ذلك في دينهم؟!. وإنما أرادَ عمرو بذلك أن يَرَوا حالَ المسلمين.
فردَّ عليهم عمرو مع رُسُله: أنْ ليس بيني وبينك إلا إحدى ثلاث خِصال: إما إن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتُم أعطيتُم الجزيةَ عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما جاهدْناكم بالصبر والقتال حتى يحكُمَ اللهُ بيننا، وهو خير الحاكمين.
فلمّا جاءت رُسُل المقوقس إليه، قال: كيفَ رأيتموهُم؟ قالوا: رأينا قوماً الموتُ أحبُّ إليهم من الحياة، والتواضعُ أحبُّ إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهمة، وإنما جلوسُهم على التراب، وأكلُهم على رُكَبِهم، وأميرُهم كواحدٍ منهم، وإذا حضرت الصلاةُ لم يتخلّف عنها منهم أحدٌ، ويتخشّعون في صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحلَف به، لو أنّ هؤلاء استقبَلوا الجبالَ لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحدٌ، ولئن لم نغتنم صُلحَهم اليومَ وهم محصورون بهذا النيل، لم يُجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقَوُوا على الخروج من موضعهم.
فردَّ إليهم المقوقسُ رُسُلَه، وقال: ابعثوا إلينا رُسُلاً منكم نعاملهم، ونتداعى نحنُ وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاحٌ لنا ولكم.
فبَعَثَ عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدُهم عبادة بن الصامت، وطولُه عشرةُ أشبار، وأمرَهُ عمروٌ أن يكونَ مُتكلّمَ القوم.
وكان عبادةُ بن الصامت أسود، فلما ركبوا السُّفُنَ إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدّم عبادةُ، فهابَه المقوقسُ لسواده، فقال: نَحُّوا عني هذا الأسودَ وقدِّموا غيرَه يُكلّمني. فقالوا: إنّ هذا الأسودَ أفضلُنا رأياً وعِلماً، وهو سيّدنا وخيرُنا والمقدَّم علينا، وإنا نرجعُ جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمرَه الأميرُ دوننا بما أمرَه به.
فقال المقوقسُ لعُبادة: تقدّم يا أسودُ، وكلّمني برفقٍ، فإني أهابُ سوادك، وإن اشتدَّ عليّ كلامُك ازددتُ لك هيبةً. فتقدّم إليه عبادة، فقال: قد سمعتُ مقالتَك، وإنّ فيمن خَلّفتُ من أصحابي ألفَ رَجُلٍ أسود، كلّهم أشدُّ سواداً مني وأفظعُ منظراً، ولو رأيتَهم لكنتَ أهيب لهم منك لي، وأنا قد ولّيتُ، وأدبرَ شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهابُ مئة رجلٍ من عدوّي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتُنا وبغيتُنا الجهاد في الله تعالى، واتّباع رضوان الله، وليس في غزونا عدوّنا ممن حاربَ الله لرغبةٍ في الدنيا، وما يبالي أحدُنا: أكان له قنطارٌ من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن نعيم الدنيا ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيمُ والرخاء في الآخرة، وبذلك أمَرَنا ربُّنا، وأمَرَ به نبيُّنا، وعَهِد إلينا أن لا تكون همةُ أحدنا من الدنيا إلا فيما يُمسِكُ جَوعَتَه، ويستُرُ عورتَه، وتكون همتُه وشغله في رضا ربّه، وجهاد عدوّه.
فلمّا سمعَ المقوقسُ ذلك منه، قال لمَن حوله: هل سمعتم مثلَ كلام هذا الرجل قط؟ لقد هِبتُ منظره، وإنّ قولَه لأهيبُ عندي من منظره، وما أظنُّ مُلكهم إلا سيغلِبُ على الأرض كلّها.
ثم أقبل المقوقسُ على عُبادة، فقال: أيّها الرجلُ، قد سمعتُ مقالتك، وما ذكرتَ عنك وعن أصحابك، وقد توجّهَ إلينا لقتالكم مِن جَمْع الروم مما لا يُحصى عددُه: قومٌ معروفون بالنجدة والشدّة، ممن لا يُبالي أحدُهم مَن لقي ولا مَن قاتَلَ، وإنّا لنعلمُ أنكم لن تَقوَوا عليهم، ولن تُطيقوهم لِضعفكم وقلّتكم، وأنتم في ضيقٍ وشدّةٍ من معاشكم وحالكم، ونحنُ تطيبُ أنفسنا أن نصالحكم على أن نَفرِضَ لكلّ رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مئة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا هذا، أمّا ما تُخوّفُنا به مِن جَمع الروم، وأنّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تُخوّفُنا به، إنْ كان ما قلتُم حقاً فذلك والله أرغبُ ما يكون في قتالهم، لأنّ ذلك أعذرُ لنا عند ربّنا إذا قدِمنا عليه، وإنْ قُتلنا من آخرنا كان أمكَنَ لنا في رضوانه وجَنّته، وإنّا منكم حينئذٍ على إحدى الحُسنيين: إمّا أن تَعظُمَ لنا بذلك غنيمةُ الدنيا إنْ ظَفِرْنا بكم، أو غنيمةُ الآخرة إنْ ظفرتُم بنا، وإنّ الله تعالى قال لنا في كتابه: (كم مِن فِئةٍ قليلةٍ غَلَبَتْ فئةً كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين). {سورة البقرة: 249}. وما منّا رجلٌ إلا وهو يدعو ربّه صباحاً مساءً أن يرزقَه الشهادة، وقد استودع كلُّ واحدٍ منّا ربَّه أهلَه وولدَه.
أمّا إنْ أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يَقبلُ الله غيره، أمَرَنا الله أن نُقاتلَ مَن خالَفَه ورغِبَ عنه حتى يدخلَ فيه، فإنْ فَعَلَ كان له ما لنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله، فإن قبلتَ ذلك أنتَ وأصحابُك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولا نستحِلُّ أذاكم، ولا التعرّضَ لكم، وإن أبيتُم إلا الجزيةَ فأدُّوا إلينا الجزيةَ عن يدٍ وأنتم صاغرون، نعاملْكم على شيءٍ نَرضى به نحنُ وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتُم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعَرَض لكم في شيءٍ من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذ كنتم في ذمّتنا، وإن أبيتُم فليسَ بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموتَ من آخرنا، أو نُصيبَ ما نُريدُ منكم، هذا ديننا الذي نَدينُ الله به، ولا يجوزُ لنا فيما بيننا وبينه غيرُه، فانظروا لأنفسكم.
فالتفتَ المقوقسُ عند ذلك إلى أصحابه، فقال: قد فَرَغ القولُ فما ترونَ؟ فقالوا: أو يرضى أحدٌ بهذا الذُّل؟!.
فقال المقوقسُ لعُبادة: قد أبى القومُ فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نُعطيكم في مَرّتكم هذه ما تمنّيتُم وتنصرفون.
فقام عُبادة وأصحابُه، فقال المقوقس لمَن حوله عند ذلك: أطيعوني وأجيبوا القومَ إلى خَصلةٍ من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تُجيبوا إليها طائعين لتُجيبنَّهم إلى ما هو أعظمُ منها كارهين.
فقالوا: أيّ خَصلةٍ نُجيبهم إليها؟ قال: إذاً أخبركم... أمّا دخولُكم في غير دينكم فلا آمرُكم به، وأمّا قتالُهم فأنا أعلمُ أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تصبروا صَبرَهم، ولا بُدّ من الثالثة. قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم، تكونون عبيداً مُسلَّطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خيرٌ لكم من أن تموتوا عن آخركم.
وأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجزيرة، وفي القصر من جمع الروم والقبط جمعٌ كثيرٌ، فألحَّ المسلمون عند ذلك بالقتال على مَن في القصر حتى ظفروا بهم، وأمكنَ الله منهم، فقُتلَ منهم خَلقٌ كثير، وأُسِرَ مَن أُسِر، والمقوقسُ يقول لأصحابه: ألم أُعْلِمْكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فوالله لتُجيبنَّهم إلى ما أرادوا طوعاً، أو لتُجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كَرهاً، فأطيعوني من قبل أن تندموا.
فلمّا رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعَنُوا بالجزية، ورضُوا بذلك على صُلحٍ يكونُ بينهم يعرفونه...
وذكر أنّ المقوقس كتبَ كتاباً إلى ملك الروم يُعلمه على وجه الأمر كلّه، فكتبَ إليه ملك الروم يُقبِّحُ رأيه ويعجِّزُه، ويردُّ عليه ما فَعَل، ويقول في كتابه: إنّما أتاكَ من العرب اثنا عشر ألفاً، وبمصر مَن بها من كثرة عدد القبط ما لا يُحصى... فناهضْهُم القتالَ ولا يكون لك رأيٌ غير ذلك.
فقال المقوقسُ لما أتاه كتاب ملك الروم: والله إنّهم على قلّتهم وضعفهم أقوى وأشدُّ منا على كثرتنا وقوّتنا، إنّ الرجلَ الواحد منهم ليعدلُ مئةَ رجلٍ منا، وذلك أنهم قومٌ الموتُ أحبُّ إليهم من الحياة، ويقولون إنّهم إن قُتِلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبةٌ في الدنيا ولا لذّةٌ إلا على قدِّ بُلغَةِ العيش من الطعام واللباس، ونحن قومٌ نكرهُ الموتَ، ونُحبّ الحياةَ ولذّتها، فكيف نستقيمُ نحن وهؤلاء، وكيف صبرُنا معهم؟ واعلموا يا معشر الروم أني والله لا أخرجُ مما دخلتُ فيه، وصالحتُ العربَ عليه، وإني لأعلمُ أنكم سترجعون غداً إلى قولي ورأيي، وتتمنَّون أنْ لو كنتم أطعتموني، وذلك أني قد عاينتُ ورأيتُ، وعرفتُ ما لم يُعاين الملك ولم يَرَه ولم يعرفه. وَيْحَكُم، أما يرضى أحدُكم أن يكون آمناً في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة!.
... واستعدّت الروم، وقدِم عليهم من أرض الروم جمعٌ عظيم، ثم التقوا بسُلطَيس، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً، ثم هَزَمَهم الله.
ثم ذكر قتالَهم في الإسكندرية، وموت هرقل، وفتحهم الإسكندرية...
[ هذا ما رواه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" ص55-63، ونقله عنه السيوطي في "حسن المحاضرة" 1/109-119 والمقريزي في "خططه" 1/288-293 ]
وسوم: العدد 923