قصة الشهيدة أميرة عبد الفتاح قفة( صبح )
قصة الشهيدة أميرة عبد الفتاح قفة( صبح ) أم أسامة والتي استشهدت مع إبنها عبد الرحمن في بداية معركة سيف القدس ...
من أخبار الحرب
عظةٌ متكاملةُ الأركان في رحاب بيت أم أسامة صًبُح رحمها الله
بدأت القصة بأنَّ الأخ الفاضل معاذ صُبُح أبا سعد أرسل إليَّ صبيحة هذا اليوم الأربعاء السابع من شوال صورةً لبيتهم الذي قُصِـ..ـف في صدر هذه المعركة "سيف القدس".
والذي جعله يفعل أنه لما ذهب اليوم إلى البيت ليراه وجد في الرَّدمِ كتابي: "الربـ..ـاط وأحكامه في الفقه الإسلامي.. غزة أنموذجًا" باقيًا، فصوَّره وأرسل الصورة إليَّ، وأردفتُهَا بالمنشور.
فسألته عن قصة القصـ..ـف، ودخلت حسابه حتى اكتمل عندي نسجُ قصةٍ حية رأيت أن أُدوِّنَها؛ لما في هذا النوع من الأخبار من عظةٍ وتربيةٍ وتهذيب ووفاء.
والقصة جرت أحداثها في معسكر الشاطئ غرب مدينة غزة، في أول أيام الحرب 11-5-2021 م، فقُصِـ..ـفَ البيتُ واستشهـ..ـدت الأم "أميرة صُبُح أم أسامة" رحمها الله، وتبلغ من العمر 57 عامًا، واستشهـ..ـد معها ولدها الأصغر "عبد الرحمن" رحمه الله، ويبلغ من العمر 19 عامًا.
وأنا يبلغ بي التأثرُ غايتَهُ عند استشهـ..ـاد النساء وخاصة الأمهات؛ لأنَّ الأم هي ركن البيت الأكبر، وبموتها يصبح الأولاد أيتامًا ولو بلغوا سن الخمسين.
وفي قصتنا فإنَّ الزوجَ قد استشهـ..ـد عام 2003، وكانت الزوجة في شبابها يومئذٍ، ولم تتزوج، واشتغلت بتربية أولادها، وتحملت اللأواء في ذلك، وتعنَّت في ذلك أيَّما عناء، فكانت هي الأم وهي الأب، حتى كبر الأولاد وزوَّجت ثلاثةً منهم، وزوَّجت ابنتها الوحيدة، وباكتمال استقلال الأولاد جاء الاصطفاء بالشهـ..ـادة.
وإذا جئنا إلى ليلة الشهـ..ـادة فقد كانت ليلةَ التاسع والعشرين من رمضان، فنشطت أم أسامة في القيام حتى مطلع الفجر، لا سيما وأنَّ الليلة ليلةُ وتر، ويحتمل أن تكون ليلةَ القدر، وصلَّت الفجر وأصبحت صائمة، وأخذت تقرأ أذكار الصباح، فجاء القصف وهي تذكر ربها جلَّ جلاله!.
ألا ما أروع هذا الختام لامرأةٍ لا تملك من أمرها شيئًا!.
لكن الخواتيم ميراث السوابق
فقد أخبرني ولدها أنَّ أمه كانت كثيرة الصيام والتهجد، وقد قامت جميع ليالي رمضان لا سيما العشر الأواخر التي لم تكتمل؛ تحريًا لليلة القدر.
وكانت قد أصيبت من مدةٍ قريبةٍ بفيروس كورونا، وكان يمكن أن تموت بسببه، لكن الله مدَّ لها في الأجل حتى تشهد المعركة، وتقضي نَحْبَها فيها، في معركة عقديةٍ عنوانها القدس، والزمان فاضلٌ هو رمضان، بعد ليلة قيامٍ وتعبد، وهي تُرَطِّبُ لسانَهَا بذكر ربها، ألا ما أكرمك يا رب!.
ومن المشاهد المهمة في القصة:
أنَّ ولدها عبد الرحمن مصابٌ بالشلل الدماغي، وكانت تقوم بكلِّ أموره، وتتعنى له، حتى إنها كانت قليلة الخروج من البيت؛ اشتغالًا برعايته.
ونظرًا للعناء الذي يلحقها من خدمته كانت تخشى أن تموت قبله فيتعنى بعدها، ولهذا كانت تدعو الله دائمًا أن يقبضهما معًا، حتى لا يبقى بعدها ثانيةً واحدة؛ لئلا يعاني في هذه الحياة؛ خشيةً من تقصيرِ أحدٍ في حقه أو الوقوع في إهانته.
واستجاب الله دعاءها، فجاءت طائرات الغدر الصهيـ..ـونية وقصفـ..ـت البيت، فاستشهـ..ـدت هي وولدها عبد الرحمن عليهما رحمة الله.
لقد عاشا معًا واستشهـ..ـدا معًا!.
وهذا يذكرني برجلٍ من المجـ..ـاهـ..ـدين قال لصاحبه: سألتُ ربي ألا أفجع بك، فرد عليه: وأنا أسأل الله ألا أفجع بك، فاستشهـ..ـدا معًا في ضربةٍ واحدةٍ!.
ومن لطيف الأخبار في الحرب الماضية عام 2014 أن أحد الإخوة المجـ..ـاهـ..ـدين قال: لي صاحبٌ تعرض لخطر القتل وغُلِّبَتِ الظنونُ باستشهـ..ـاده، وكان أعزَّ أصحابي وأحبَّهم إليَّ، فقلت: إن كان قد استشهـ..ـد فلا طيب للعيش لي بعده.
وشاء الله أن يتعرض هذا الأخ نفسه لخطر الاستهداف، قال: وفي هذه اللحظة قلت: اللهم إن كنت قضيت لأخي بالشهـ..ـادة فارزقني إياها، وإن كان سالمًا فسلمني.
قال: وما هي إلا لحظات إلا ويُقصَـ..ـفُ المكانُ الذي أنا فيه، ولم يكن بيني وبين القتل إلا مسافة متر واحد، فنجاني الله تعالى، فعلمت أنَّ أخي حيٌّ يرزق، وقد كان!.
وبقي أن تعلم أنَّ بقية أفراد بيت أم أسامة قد نجوا في حادثة القصـ..ـف، نزل الصاروخ، فنجَّى الله بعضًا بفضله، واصطفى للشهـ..ـادة بعضًا بفضله، فلا يخسر على الله أحد.
وقد نشرت من يومين خبر إخواننا الكرام من عائلة الرنتـ..ـيسي، كان في البيت نحوٌ من عشرين فردًا ونزل الصـ..ـار.و.خ ولم ينفجـ..ـر، ووافق هذا تكبيرهم تكبيرة الإحرام لصلاة الفجر، ونجاهم الله جميعًا بفضله!.
وهكذا رحلت أم أسامة عن دنيانا بعد تعبٍ وعناء.
نعم؛ لقد تعبت أم أسامة في حياتها؛ عناءٌ في البيت، وعناءٌ بفقد الزوج، وعناءٌ في رعاية ولدها عبد الرحمن ذي الإعاقة، وعناءٌ في تربية الأولاد، وعناءٌ في تحصيل النفقة والرعاية، لكن ذهب التعب يا أم أسامة، وأنت الآن عند ربٍّ كريم، رحمن رحيم.
والظن بالله الكريم أن أم أسامة قد عاينت من فضل الله ما لا يخطر للعالمين ببال.
اللهم تقبل أم أسامة وولدها عندك، وإن كانوا في إحسان فزد في إحسانهم، وإن كانوا في حرجٍ فتجاوز عنهم واغفر لهم وارفع درجتهم.
والحمد لله رب العالمين.
حُرِّر في ليلة الخميس، السابع من شوال، التاسع عشر من مايو، العاشر من معركة سيف القدس.
وسوم: العدد 930