( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
من المعلوم أن الله تبارك وتعالى ما خلق الإنسان إلا لتكريمه وتفضيله على كثير ممن خلق مصداقا لقوله تبارك وتعالى في محكم التنزيل : (( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) . و من تكريمه عز وجل للإنسان حفظ كرامته البشرية من الامتهان والابتذال حيث لم يرض له اتخاذ غيره إلها يعبده ، وهو لا يملك له ضرا ولا نفعا ، وبهذا يتحقق تكريمه على الوجه الأكمل من خلال توحيده لله تعالى .
ولقد تكفل الله تعالى بنصر الإنسان المكرم بالتوحيد على الإنسان الممتهن والمبتذل الكرامة بالكفر وبالشرك ، وجعل ذلك سنة ماضية في الخلق إلى قيام الساعة . ووعده سبحانه وتعالى للإنسان المؤمن الموحد بالنصر إنما هو لتثبيته على الإيمان والتوحيد صيانة لكرامته مصداقا لقوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) . ففي هذه الآية الكريمة تحفيز من الله عز وجل لعباده المؤمنين للثبات على دين الإسلام الذي ارتضاه لهم، وهو دين يحفظ كرامتهم بتوحيد خالقهم وعبادته .
وإذا كان سبحانه وتعالى قد اشترط في هذه الاية الكريمة على عباده المؤمنين أن ينصروه إذا ما رغبوا في الحصول على نصره ،فإن ذلك لا يعني أنه في حاجة إلى نصرهم له لغناه ، وعلوه علوا كبيرا سبحانه وتعالى عن ذلك ، وهو جبار السماوات والأرض ، والقاهر فوق عباده ، ولا غالب إلا هو ، وإنما المقصود بنصرهم له هو نصر دينه الذي يصون كرامتهم ،لأنهم إن نصروا دينه كان ذلك نصرا لهم ، وصيانة للكرامة التي ارتضاها لهم وأنعم عليهم بها ، وجعل لهم بها أفضلية على كثير ممن خلق .
ومعلوم أن نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين يأخذ أشكالا عدة حيث يكون نصرا ماديا أو نصرا معنويا أو هما معا . ومعلوم أيضا أن نصره سبحانه وتعالى يتوقف على قدر أو حجم نصرهم لدينه، ذلك أنهم كلما بذلوا الجهد في نصر دينه وافاهم بنصر من عنده مقابل لجهدهم .
ومن أشكال نصر دين الله عز وجل خوض القتال مع من يعادونه أو يستهدفونه لمنع الناس منه . وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالأخذ بأسباب خوض القتال من أجل نصرة دينه فقال سبحانه وتعالى : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )) . ومع أمره سبحانه وتعالى بالأخذ بهذه الأسباب، فقد نبه عباده المؤمنين أن النصر إنما يكون من عند مصداقا لقوله تعالى : (( وما النصر إلا من عند الله )) ، كما نبههم إلى أنه لا يكون النصر أو تكون الغلبة في النزال بكثرة عدد أو كثرة عدة مصداقا لقوله تعالى : (( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليّتم مدبرين )) . وواضح من قوله هذا سبحانه وتعالى أنه هو المتحكم في أمر النصر ، وأنه إن شاء جعل الغلبة للفئة القليلة على الفئة الكثيرة مصداقا لقوله تعالى : (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله )) . ولا تعارض بين هذه المشيئة الإلهية وبين أمره سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بإعداد العدد والعدة مع استحضارهم أنها مجرد أسباب لا تتخذ أربابا من دون الله عز وجل الذي عليه المعول .
وعلى غرار نصر الله تعالى عباده المؤمنين في القتال والنزال، فإنه قد ينصرهم بأنواع أخرى من النصر، ورب نصر معنوي يكون أعظم من نصر بعد قتال ونزال كما كان الحال بالنسبة لفتح مكة على سبيل المثال لا الحصر .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو اختلاف وتضارب الآراء حول المنتصر والمنهزم في النزال الأخير الذي وقع بين المحتل الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في فلسطين عموما وفي قطاع غزة خصوصا . واختلاف وتضارب الآراء بخصوص هذا الأمر مرده اختلاف القناعات والتوجهات، ذلك أن الذين يعتدون بقوة العدد والعدة يرون أن الانتصار كان من نصيب الطرف الأكثر عددا وعدة ، وقد قاسوا هذا الانتصار بحجم ما سقط من ضحايا في صفوف الفلسطينيين ، وحجم ما وقع من تدمير في البنى التحتية في القطاع ، بينما رأى غيرهم أن الانتصار كان من نصيب الطرف الأقل عددا وعدة ، وأصحاب هذه القناعة هم المؤمنون الذين يؤمنون إيمانا راسخا بصدق وعد الله تعالى لعباده الذين ينصرون دينه بنصره ، وبأنه من سننه أن الفئة القليلة عددا وعدة قد تغلب الفئة الكثيرة عددا وعدة بإذنه جل وعلا ، وأن الكثرة قد لا تغني عن أصحابها شيئا.
وواضح من الطريقة أو الكيفية التي انتهى بها النزال بين المحتل الصهيوني والمقاومة الفلسطينية دلتا على أن النصر كان من نصيب تلك المقاومة المباركة ، ذلك أن أكبر قوة في العالم طرقت كل باب من أجل التسريع بإنهاء هذا النزال ليس حبا في المقاومة، ولا إشفاقا على الفلسطينيين ، وإنما خوفا على الصهاينة والدليل الواضح على ذلك هو تبرير عدوانهم الوحشي والهمجي الذي قتل الإنسان ودمر العمران بأنه دفاع عن النفس ، دون اعتبار ما ألحقته المقاومة الفلسطينية به من خسائر دفاعا عن النفس بل اعتباره عدوانا وإرهابا ، وكفى بهذه شهادة من تلك القوى العظمى على أن النصر كان حليف المقاومة الفلسطينية ، وأن النصر إنما يكون من عند الله عز وجل ، وأن ما وعد به من ينصر دينه ناجز لا محالة ، وما خاضت المقاومة الفلسطينية الباسلة نزالها مع عدوها الصهيوني إلا لنصرة دين الله عز وجل حين اعتدى هذا العدو على أقدس مقدساته من خلال محاولات تدنيسها ، وعلى عباد الله المؤمنين وهم قائمون لله تعالى في مسجده الأقصى في شهر الصيام ، وعليهم وهم في بيوتهم بالمدينة المقدسة يريد إخراجهم منها ظلما وعدوانا .
ولا شك أن الذين لم يشرح الله تعالى صدورهم للثقة في وعوده التي ضمنها كلامه الكريم المنزل على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من بعض المحسوبين على الإسلام دون تشرب قلوبهم له هم على قناعتهم الخاطئة بأن الطرف الصهيوني كان هو الغالب في هذا النزال إلا أن من ثبتهم الله تعالى على الإيمان بوعوده الناجزة هم على قناعة راسخة بأن الطرف الفلسطيني المؤمن كان هو المنصور بالله والمنتصر به . ولقد استبشر المؤمنون خيرا بهذا النصر في كل أنحاء المعمور ، وكان ذلك سببا في تجديد ثباتهم على إيمانهم وعلى دينهم ، وقد ازدادوا يقينا بأن الله تعالى مع من ينصر هذا الدين مهما كان حجم سعيه لنصرته .
اللهم لك الحمد أولا وأخيرا فيما أنعمت به على عبادك المجاهدين والمرابطين في بيت المقدس وأكنافه ، ولك الحمد في الأولى والآخرة ، ولك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى . اللهم بارك في نصرك الذي أيدت به عبادك في أرضك المقدسة ، ولا تجعل للصهاينة عليهم سبيلا بعد اليوم ، وقد أريت أعداءك منهم ما يحذرون . اللهم ثبت أقدام من نصروا دينك كما وعدتهم . اللهم خيّب مسعى كل من أراد لهم غير نصرك وعزتك . اللهم عليك بمن عاداهم أو خذلهم في سر أو علن . اللهم جازي خيرا من أيدهم بقول أو عمل، وثبته فإنك قد أوحيت إلى رسولك عليه الصلاة والسلام قوله مبشرا أمته : " من بلّغ ذا سلطان حاجة إبلاغ من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم القيامة " اللهم اشهد أننا نبلغ ذوي السلطان في بلاد المسلمين حاجة إخواننا في فلسطين إلى النصرة والعون والتأييد ، اللهم رقق لهم القلوب ، وعجل لهم بالفرج وبتمام فتحك المبين ،إنك على كل شيء قدير وبالاستجابة جدير ، وإنك فعّال لما تريد .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 931