درس غزة لإسرائيل .. ليس بالسلاح وحده تعيش الدول
لا تقع إسرائيل في شدة حتى تسارع أميركا لإنقاذها منها مهما كان نوع هذه الشدة ، سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية . ولما كان الإنقاذ العسكري دائما أشد إلحاحا ومصيرية فإنها تسارع للقيام به فور وقوعه . حدث هذا في حرب أكتوبر 1973 حين أطلق الرئيس الأميركي نيكسون صيحته المشهورة لوزارة الدفاع الأميركية : " أرسلوا كل ما يمكن أن يطير ! " . وعقبت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل على سرعة الإنقاذ الأميركي وفاعليته قائلة :" اتضح أن أميركا ليست صديق إسرائيل فقط . إنها إلهها . " . كان إنقاذ 1973 معقولا أمام أقوى جيشين عربيين ، جيش مصر وجيش سوريا ، مع ما كان يبديه الإسرائيليون من اغترار بقوتهم العسكرية بعد انتصارهم السهل الخاطف في حرب 1967 اغترارا جاهر معه ديان وزير دفاعهم بزعمه أن إسرائيل قادرة على محاربة الاتحاد السوفيتي ! المفاجأة الكبرى هذه المرة في تاريخ الإنقاذ الأميركي العسكري لإسرائيل أنه كان في حربها الأخيرة على غزة . سبحان مبدل الأحوال حقا ! أميركا تنقذ إسرائيل من حرب مع غزة بادرت هي إليها متحمسة متفائلة بانتصار سريع بعد إطلاق حماس رشقة صواريخ على القدس الغربية . هذا انقلاب تاريخي استراتيجي له ما يليه من تحولات مصيرية كبرى في صراعنا مع إسرائيل والمشروع الصهيوني بكامله . غزة صنعت المستحيل الذي لم يرد في بال أحد ، ولم يكن موضوع درس في أي خطط عسكرية لعدو أو صديق لها حيث أجبرت إسرائيل مخذولة مكسورة على الاستغاثة بحاميتها الكبرى أميركا . واتخذت الاستجابة الأميركية السريعة مجريين . المجرى الأول تزويد إسرائيل بذخائر دقيقة لسلاحها الجوى أو ما يوصف بالقنابل الذكية ب 735 مليون دولار ، وأعلنت بعد الحرب عن نيتها تعويضها عما فقدته من صواريخ قببها الحديدية . والمجرى الثاني اتصال بايدن بالرئيس عبد الفتاح السياسي بطلب من إسرائيل نفسها للعمل على إقناع المقاومة الفلسطينية بوقف إطلاق النار، وهو ما قام به منفعة لنظامه بإرضاء إسرائيل وأميركا قبل كل شيء لا حبا في غزة ولا حفاظا عليها ، فتوقف إطلاقها بانتصار للمقاومة وهزيمة لإسرائيل اعترف بها عسكريوها وإعلامها وإن بثوا في ثنايا اعترافاتهم شيئا من المكابرة والمبررات ، فليس يسيرا عليهم ابتلاع لهب هزيمتهم في مجابهة غزة الصغيرة الفقيرة التي يحاصرونها منذ 14 عاما ، ويشاركهم نظام السيسي في هذا الحصار . إسرائيل لم تفق بعدُ من هزيمتها في غزة ، وإن كان بعض مسئوليها الحاليين ، وبعض المتطلعين إلى قيادتها قريبا مثل نفتالي بينيت يهددون بحرب جديدة على غزة . وإذا قدر لها أن تفيق في الوقت المنظور فدرس غزة يوجب عليها أن تسأل نفسها عن احتمالية ديمومة كيان بهذه الصفة العدوانية المرضية ، وبهذا الاحتياج الهائل إلى إنقاذ متواصل من دولة عظمى هي أميركا ، وما قدرتها على الثبات أمام قوى أخرى في المنطقة أكبر بأبعاد واسعة من قوة غزة مثل حزب الله وإيران وسوريا وجماعة أنصار الله في اليمن ، وكل هذه القوى تترقب لحظة مقاتلتها للفتك بها نهائيا . والسؤال الأبعد في درس غزة الذي يجب أن تطرحه إسرائيل على نفسها : هل عاش كيان في التاريخ على السلاح وحده ، وعلى إنقاذ الآخرين له ؟! في أميركا ملل من إسرائيل حتى بين اليهود ، وفي بريطانيا تبرأ حاخامات يهود من الصهيونية . ومع أن وزارة الخارجية الأميركية أكدت لجانتس وزير الدفاع الإسرائيلي في زيارته الأخيرة لأميركا : " التزام أميركا الذي لا يتزعزع بأمن إسرائيل . " إلا أنها أصافت أن بلينكن " شدد على حاجة الإسرائيليين والفلسطينيين للتمتع بتدابير متساوية من الأمن والازدهار والديمقراطية والكرامة . " ، وهذه نبرة جديدة في الصوت الأميركي نحو الفلسطينيين . وأهم ما في الأمر كله أن دوائر التحدي العربي والإسلامي لإسرائيل ستتعدد وتتسع مقتدية بما صنعته مقاومة غزة في حرب الأيام الأحد عشر ، وأن ثقة الإسرائيليين في قوتهم العسكرية وقدرتها على جلب الأمن والهيمنة لهم كُسرت كسرا لا جبر بعده مهما افتعلوا من حروب لتعزيز هذا الأمن وبسط هذه الهيمنة ، فدرس غزة واضح راسخ ، وخلاصة دلالته : ليس بالسلاح وحده تعيش الدول .
وسوم: العدد 932