مقصورة مفاهيمية تعيد ما تاه من الفلسفة الضائعة
ذات يوم من أيام الهجرة القسرية سنة 1981م وأنا في مدينة الأهواز جنوب إيران حيث كنت في طريقي من وسط المدينة إلى حيث السكن في شمالها عبر المواصلات العامة، وبينما أنا جالس في سيارة الأجرة بانتظار اكتمال عدد الركاب، كان على يساري أحد الركاب معتمراً يشماغا وعقالا وعباءة عربية وهو أحر من الجمر بانتظار أحدهم يلتفت من بين ثنايا نافذة السيارة، وبعد برهة من الزمن جاءت إمرأة خمسينية معتمرة عمامة نسوية ريفية وما أن وضعت قدميها عند مدخل السيارة حتى بادرها الرجل وبلهجته العربية الأهوازية متسائلا عن قريب له يفترض أن يستقل معهما سيارة الأجرة، فردت عليه باللغة نفسها: "شنو أسَوِّيلَه واگف وِيَه رَبْعَه يِتَلْسِفْ عليهم" أي: (ماذا أفعل له، واقف مع أصدقائه يتفلسف عليهم).
عشت في هذه المدينة الواقعة على نهر كارون نحو ثلاثة أشهر أتعامل مع اهلها الذين تتقطر الطيبة من جوانبهم، طيبة ونخوة تنمى إلى شجرة عربية أصيلة وأتحدث معه اللهجة العراقية الكربلائية فيما هم يتحدثون اللهجة العربية الأهوازية القريبة جداً إلى لهجة أهلنا في جنوب العراق، ولكن هذه المرة الأولى التي أسمع مَن ينطق اسم الفلسفة بتقديم تأخير الحروف، ولا أخفيكم أني ابتسمت لنطقها "يِتَلْسِفْ" حيث جاءت على لسانها حلوة الحروف في مخارجها، على أنَّ إيراد الفلسفة في مثل هذه المواضع من مقامات الحديث تختلف كليا عن أصل الكلمة وتعريفها ومرادها، فهي تقال في أغلب الأحيان في مقام الإستهزاء من القائل أو التقليل من قيمة كلامه، فما يقال عن الفلسفة وحديث التفلسف بين العلماء وطلاب العلم يختلف عن مرادها عندما يكون الحديث بين عامة الناس فهنا يُراد منها المعنى المخالف لأصل الكلمة، أي أن الرجل ارتقى منبر الحديث يأخذ مستمعيه يمنة ويسرة كأنه أبو أحمد أو أم أحمد العرِّيف!
فالفلسفة في تعريفها العام كما يقال هي من نتاج اللغة اليونانية المركبة من كلمتين: فيلو + سوفيا وتعني حب المعرفة، وتقتضي المعرفة الفلسفية الوقوف على حقائق الأشياء كما هي أو من جذورها وقواعدها وأساساتها، فإذا قال القائل أن العالم الفلاني يتفلسف في هذا أو ذاك أي يتابع الشيء من جذره للوقوف على أصله، وإذا قال القائل أن فلانا يتفلسف على الناس فهو نوع من التقليل من أصل الحديث، بلحاظ أن الفلسفة مرتبة عالية من المعرفة لا يصل مرقاها كل عالم ومتعلم فكيف بغيره من عامة الناس أو على سبيل تعلم!.
حديث الأهوازية الخمسينية في يوم كنت أشارف حينها على نهاية العشرين من عمري، تسلل من ثنايا الذاكرة وأنا أتابع مقصورة (الفلسفة الضائعة) للأديب المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادرة حديثا (2021م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 319 صفحة من القطع الوزيري تصدرتها مقدمة الباحث والأكاديمي الدكتور عبد الحميد بن عبد الجواد النجدي، مع قصيدة تقريظية دبج قوافيها الأديب والأكاديمي الدكتور عبود بن جودي الحلي، وقبلهما مقدمة الناشر وبعدهما "الإبتداء" للمؤلف.
ضياع الفلسفة!
منذ أن أدركت القراءة الجادة للكتب والمؤلفات وأنا في منتصف العقد الثاني من عمري، توطن في ذهني أن الفلسفة بحر هائج ومتاهة مظلمة، من دخلها ضاع في تلافيفها إلا من رحمه الله واصطفاه ورفع عنه غشاوة عمى البصيرة، ولهذا قال البعض بحرمتها وسدَّ أبواب الغوص فيها إلا لمن وقف على مداخلها ومخارجها، وقليل ما هم بل أندر من الكبريت الأحمر.
فلسفة الكرباسي الضائعة هي مقصورة من ألف بيت حول (62) مفهوما نتعامل بها في حياتنا اليومية أو نمارسها ونعيشها ونتعايش معها ونعتاش عليها، تناولها نظما في المقصورة ونثراً في حوارية يبين فيها فلسفة المفهوم وعمقه بعبارات قليلة ومفهومة للقاصي والداني رغم أنه يتقصى جذرها أي يدور في قطب رحى الفلسفة، وليست المقصورة وحوارياتها ضائعة أو مضيعة للقارئ كما يفهم لأول وهلة من عنوان الكتاب، وإنما ضائعة لقصور التعاطي معها وفهمها على حقيقتها حتى كادت فلسفة المفاهيم التي يتناولها الكتاب بشطريه النظمي والنثري تضيع عن مدار فهمنا وإدراكنا كأنها فلسفة ضائعة في متاهات لا متناهية، فالمراد من الضائعة هنا هو المفهوم المخالف، لإيمان المؤلف أن بعدنا عن الفهم الصحيح لما يرشح عن الحياة جعلنا نشعر أن التقرب من معرفة الأشياء وفلسفتها مضيعة للوقت ومهلكة للشخص بخاصة إذا تطرقت الفلسفة إلى حقيقة الوجود والخالق والمخلوقات، بلحاظ أن الفلسفة هي الحكمة في أدق معانيها، ولذلك يبدي الشيخ الكرباسي استغرابه: (لأن بعضهم حرّم الفلسفة باعتبارين، الأول: إنها مستوردة من اليونان، والثاني: لأنها موجبة للضلال، حتى أنها أُقصيت من بعض الحواضر العلمية الإسلامية)، ولكنه يعود مؤكداً: (إن كل اللغويين والمعاجم تفسرها –الفلسفة- بالحكمة، فالإختلاف من حيث اللفظ كونها مفردة يونانية والتي تقابلها الحكمة في العربية، وما هو مرفوض إسلامياً البحث في العلل والأسباب لمن لا قدرة له على ذلك أو يريد تضليل الناس عبر التفلسف وإغراء الآخر بالجهل، وإلا فإن البحث عن المبادئ الأساسية ومحاولة الكشف عن ماهية الأشياء وجوهرها وأصولها وعللها وعلاقة بعضها ببعض كما عرَّفه كل من له معرفة بذلك ليس مرفوضاً، بل الله جلّ وعلا يحث عباده على ذلك لكشف الحقيقة).
ويمثل التماهي الإيجابي مع الفلسفة فهماً متطوراً على تضاد مع الذين يحرمون الخوض فيها أو يخوفون الآخرين من الإقتراب من ساحل بحرها خشية الغرق لمن لا يحسن السباحة المعرفية فيها، والكرباسي مع انفتاحه على الفهم السليم للفلسفة يشدد على الإبتعاد عنها لـ: (من لا علم له أو كان من أنصاف المتعلمين ولم يكن متعمقاً في الحكمة والأسباب والعلل)، وإلا فانه يستطرد قائلا: (إنَّ علم الكلام الذي بُنيت عليه العقائد الإسلامية قائمة على الحكمة والفلسفة، وما إثبات وجود الله جلّ وعلا وصفاته إلا مسائل عقلية وفلسفية وحكمية، من هنا أطلق البعض على علم الكلام "الحكمة")، ومع كل هذا فإن يعود محذراً من الوقوع في الفهم المغلوط لفلسفة الأشياء ومن المتلاعبين بالألفاظ: (نعم قد يستغل البعض العبارة المبهة أو الأسلوب المنطقي الذي في الأساس هو غير منطقي بل سوفسطائي ليتغلب على خصمه حتى وإن علم أنه على باطل وخصمه على حق حسب السياسة التي تدفعه والمصالح التي يتوخاها، وقد يقع الجاهل فيما لا تحسن عاقبته لعدم إمكان استيعاب عقم هذه المسائل، ومن هنا فإن بعض العلماء حرَّم البحث في المسائل الكلامية والحكمية والفلسفية لمن ليس له باع في ذلك لأنه بالفعل يوجب الإنحراف لأنه ليس أهلاً لها وغريبة على عقله البسيط مثل هذه الأمور العلمية العميقة).
وقائمة المفاهيم التي استعرضها الكرباسي في مقصورة "الفلسفة الضائعة" وحوارياتها تدلنا بوضوح على عمقها ودلالاتها في حياتنا اليومية وما نزرع في عاجل دنيانا ليجنيه الخلف ونحصده في آجل أخرانا، وجاءت المفاهيم بالترتيب على النحو التالي: الشكر، الوجود، أهل البيت والخلقة، الله أعلم، التوفيق، القدر والقضاء، الحظ، اليأس والرجاء، البركة، الحُب، الكعبة، المعجزة، العلاقات الست، مراحل التطبيق، النفس، الروح، البرزخ، المربع الأمني، الخلف والسلف، المثقف والمتعلم، الوالدان والوِلدان، الشقي، خلقوا لغير زمانكم، الخِلقة والمخلوقات، المكان والزمان، المحسوس والملموس، الحياة، الملاك، الجِن، التدرج ناموس الحياة، الزمن والزمان، الحاجة نِعمة، العلم، الأنثى والذكر، الأكثرية والأقلية، الإبتلاء، الصبر، دجل الإعلام، الأكثرية والباطل، وحدة الوجود، الإتكال والتوكل، الرَّدع، قصر العمر، الأثر الشيطاني، آيات ربِّي، العطاء، التدرج، مقياس العروج، النور، التجلِّي في المكان والزمان، نصف الأرض مشرق، الأمر بقدر، الإنتظار، غيبة المعصوم، الإرادة، العولمة، شِرعة الغاب، لا حتمية في الإنحراف، عصمة ذاتية، داء العظمة، توطئة النفس، الإيمان، لماذا الحاجة؟، وحدود الخيال.
فلسفة الحياة
واحدة من مقاصد المقصورات الشعرية هو تكثيف مفاد مادة علمية في أقل عدد من الأبيات حتى يسهل حفظها وبالتالي حفظ المادة العلمية كأن تكون مقصورة في اللغة او علم من العلوم، مثلما هي ألفية ابن مالك في النحو العربي والأرجوزة الطبية لإبن سينا في الطب، ومنظومة الحكيم السبزاوري الفلسفية، وغيرها، ولا تشذ مقصورة الفلسفة الضائعة عن هذا الطريق وبتعبير الدكتور عبد الحميد النجدي رئيس جامعة أهل البيت (ع) في كربلاء المقدسة وهو يقدم للمقصورة: (وعلى منوال الماضين نهج سماحة الشيخ الكرباسي حفظه الباري ورعاه، وهو صاحب موسوعة "دائرة المعارف الحسينية" ما يقارب النظم التعليمي في هذه المجموعة الشعرية المسمّاة مقصورة "الفلسفة الضائعة" رداً على الشبهات وإيضاحاً للمُبهمات، وناقش فيما يراه بعض الآراء الفلسفية لكبار الفلاسفة بطريقة النظم التعلمي) ويؤكد الدكتور النجدي المولود في مدينة العمارة جنوب العراق في 16/2/1948م أن هذا النمط من النظم يعتبر: (طريقة ميسَّرة في القبول، تتلقاها النفس الإنسانية بيُسر في الفهم وسهولة في حفظ المعاني والمضامين).
الشاعر والأستاذ الجامعي الدكتور عبود الحلي المولود في مدينة كربلاء المقدسة في 5/9/1954م كانت له وجهة نظر في مقصورة "الفلسفة الضائعة" عبَر عنها نظما، حيث يقول في مطلع قصيدته من بحر البسيط:
يحلو القريض ويحلو الفكرُ والأدبُ *** من عالمٍ فاضلٍ يعلو به النسبُ
موسوعَةٌ عن رياضِ الطفِّ دوَّنها *** ما دُوِّنت مثلها الأسفارُ والكُتُبُ
ثم يعقب الأستاذ في جامعة كربلاء والرئيس السابق لجامعة أهل ا لبيت (ع) في كربلاء:
واليوم أودعَ فنَّ الشعرِ فلسفةً *** ضاعَت وقد لمَّها من عينِ الهُدُبُ
للهِ درُّكَ يا بن الطفِّ مِنْ علمٍ *** صيَّرتَ فلسفةً شعراً وذا عَجَبُ
وصدق الشاعر الحلي فيما عبّر فلكل مفهوم من المفاهيم المتوزعة على صحفات المقصورة وجهة نظر فلسفية وعمق معرفي يجليها الشيخ الكرباسي للقارئ نظما ونثرا دون تعقيد، ربما أوقفنا على معنين متضادين أو معنين مختلفين يبدوان أنهما متداخلان ولكن لكلٍّ معناه لا يدرك فلسفته إلا المتمعن، ومن ذلك ثنائية المثقف والمتعلم، فالرجل المثقف هو نفسه الرجل المتعلم كما يظهر للوهلة الأولى، لكن الشيخ الكرباسي يفرّق بينهما فليس كل متعلم مثقفاً وليس كل مثقف متعلماً، بلحاظ أن التعليم غير الثقافة، لأن المثقف: (صاحب الحكمة في السلوك من خلفية فكرية)، فيما أن المتعلم: (خزين من العلم والمعرفة وليس من الضرورة أن يتمكن من استخدامها بشكل صحيح)، ولهذا: (من يلامس الواقع يجد أن المثقف تكون له رؤية فلسفية حكيمة قد لا يحمل أي شهادة علمية، بل يكون مزارعاً أو عاملاً، وفي قبال ذلك يرى من يحمل عدداً من الشهادات في علوم مختلفة يتصرف من منظار الكبر ويتخبط في العمل ولا يفوز بالنجاحات رغم كل ما لديه من مخزون علمي)، فالسلوك السليم ثقافة، وعمل الخير ثقافة، والنظافة ثقافة ونظم الأمر ثقافة، يؤديها الأمي والمتعلم، ويتجنبها الأمي والمتعلم، فإذا أتى بها الأمي دون المتعلم تحقق الأمر في المائز بين المتعلم والمثقف، وإذا أتى بها المتعلم زاده علمه إلى ثقافته ألقا، ولهذا يقول الشيخ الكرباسي ناظما:
تعليمكم للشيء يعني لقد *** قمتم بتخزين لما قد وغى
لكنّما تثقيفكم في الورى *** يعنى لكم ضرباً يجاري الكفا
بل مسلكاً يحكي لنا عن ضميــ *** ـــرٍ صادقٍ في غاية المرتعى
ولطالما حذّر المؤلف في مجالسه العامة والخاصة من المربع الأمني الذي يسعى الإنسان لتحقيق أضلاعه الأربعة ذات الأشبار الأربعة التي تفصل بين البطن وآلة الإنسان (الفرج) ومقعده وجيبه، وبتعبيره: (إذا ما نظرت إلى رموز تلك الحاجات ومخازنها لوجدتها متقاربة بعضها مع البعض الآخر ولا يفصلها إلا شبر واحد بأي اتجاه بينيّ اتجهت، فمن البطن إلى الفرج نزولاً شبرٌ واحدٌ، وإذا ما اتجه إلى الخلف بشبر واحد فإنه محل الجلوس على كرسي المكانة، والفاصلة عن كل جيب يمينها وشمالها شبر واحد)، فالبطن إشارة إلى الأمن الغذائي، والفرج أو الآلة إلى الأمن الجنسي، والمقعد إلى كرسي القوة والسلطة، والجيب إلى الأمن المالي، فمربع الأمن الغذائي والجنسي والمالي والوجاهي أمر طبيعي إذا تحقق ضمن حدوده المعقولة، وإلا خرج عن مفهوم الأمن إلى الإعتداء، فمن بات على سبيل المثال شبعانا وجاره جائع بات معتديا، ومن رضي الزنا بديلا عن الزواج أخلّ بالأمن الجنسي، ومن تعدى على مال اليتامى وأحل مال الآخرين وتلاعب بالأموال العامة وتلقى الرشوة خرق جدار الأمن المالي، ومن طلب الجاه والقوة من غير استحقاق مال عن جادة الصواب، ومن الطبيعي أن يستبد ويطغى من طلب تحقيق المربع الأمني من غير حلِّه.
ولهذه الأضلاع الأربعة يشير الناظم في مقصورته:
كلُّ الذي من جنسنا أربعا *** يرجو بلا شكٍّ إذا ما شظى
المالُ والجنسُ اللَّذان ألهبا *** شيخاً وردّاه لعُمر الصِّبا
والبطنُ والجاهُ الذي عنده الـــ *** ـــباغي يُباري صاحباً في الكُنى
ذي أربعٌ بابٌ لباقي القضا *** يا والتي منها الهوى يُبتغى
ثم يصف الأشبار الأربعة:
البطنٌ كالفرجِ الذي تحته *** والكيسُ من أطرافه قد طفا
والمقعدُ الآتي بخلفٍ يُوا *** ري الصدرَ في المرقى وقد يُرتقى
أبعادُها شبرٌ بما ربَّعوا *** قد بالغوا في حفظها فاعتلى
وهكذا يواصل المؤلف في إظهار فلسفة كل مفهوم وإعادة الحياة إلى ما ضاع منها والتوفيق بينها بما فيه الخير والصواب، مما يضع المرء على بيِّنة مما هو فيه وأين يقف وهو في معترك الحياة، وهذا ما يجعل هذا الكتاب بأبيات مقصورته الألف وحوارياته مشعلاً في مسيرة الإنسان.
وسوم: العدد 933