رسالة أخي
وصلتني رسالة أخي المهاجر إلى إحدى الدول الغربية مع بعض الصور له ولزوجته وأطفاله وهم في إحدى حدائق مدن تلك الدولة . وبغض النظر عما ورد في تلك الرسالة ، وما يعبر عنه مرأى أطفالهم وهم يمرحون بين أفياء الأشجار ، إلا أن سيلا من المواجع انهمرت من غمرة مشاعري وأنا أتذكر أيام طفولتنا ، ولهونا في دارنا واجتماعنا على مائدة الإفطار وبقية المناسبات التي كانت تجمعنا مع الأرحام والأحباب والجيران ، ولا أخفي أنني رغم جَلَدي انهمرت دموعي سخينة لتغطي ملعب هذا العصر الذي فرشته المرارات ، ودارت في أرجائه أنواع المصيبات ، على أرحامي وأبناء بلدي الجميل ...
لستُ أدري ما إذا كنتُ قد أسرفت في بذل الآمال من قبل ،حين كنتُ أتابع بصمت سير الأحداث أمام عيني ، وكيف تسلب الحقوق ، وكيف نعجز عن الدفاع عنها أو حتى نقاومها . أرسل لي أخي أمس ــ كما ذكرتُ ــ مجموعة من الصور تضم عائلته وهم وسط تلك الحديقة الغنّاء . نعم إنَّ أخي مهجّر شأنه شان الملايين من أبناء بلدي الجميل المبارك . واستقرّ به المقام في أرض الله الواسعة بعد أن ضاقت على الناس أرضهم الرحيبة ، حقيقة كان أخي الأكثر تفاؤلا متفائل والأكثر طموحا ، وأقصد بكلمة طموح أن سقف أحلامه لم يكن شاهقا جدا كما يفعل البعض بل كانت له حدود بحسب إمكانيات ومعطيات الحياة التي نشأ فيها، أنهى تعليمه الجامعي ، ثم حصل على وظيفة ثم أسس بيتًا صغيرًا والتقى كما يقال بنصفه الثاني ليكمل معها حياته ، بكل بساطة ، بما تسمح له البيئة وما تمنحه له الحياة ، وإن كانت أمنياته ماهي إلاّ حقوق وليست كما يظنها آمالا أو أحلاما ، وحدث أن ضيّقت الحياة خناقها حول أنفاسه فلفظته بعيدا عن أرض الوطن ليجد نفسه في إحدى البلاد الغريبة عنه ... بيئتها /ديانتها/عاداتها كل مافيها كان بمثابة تجربة جديدة له، وقاسية في بعض الأحيان ، وما زال يحمل في حقيبته أحلامه الصغيرة ، وبقايا ملامح حياة عاشها في وطنه ... رائحة ترابه و أصوات أصدقائه وأمسيات طويلة قضاها بين أقربائه، يلملم قدر ما استطاع من صور ورسائل وابتسامات وحكايا يحتفظ بها داخل ذاكرته التي تغص بالأثقال . يقصها بين الحين والآخر لأبنائه، كيف لا ولازال يأمل بعودته وإياهم ذات يوم ، إلى وطن هجره جسده قسرا ، ولكن روحه لازالت تعانق ذكرياته فلطالما أوجعه الحنين فقضى الليالي الطوال يدعو الله بفرج قريب . استطاع أخي التأقلم بالغربة ، وحاول أن يترجم أحلامه إلى حقيقة من فرط ما عاناه سابقا في وطنه من تجاهل وقمع وإرهاب ؛ نعم استطاع العيش والبدء من جديد فالحياة تمنح دائما خيارات جديدة بمشيئة الله تبارك وتعالى ، وله أن يعيش نافعا لنفسه وللناس ، فالأصل في الحياة هو الخير أمّا الشر فهو دخيل ، لكنه بقي يُمَنّي نفسه بلمِّ الشمل من جديد ، فحب الوطن غريزة ولعله من شعب الإيمان ، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاّ قليل منهم) . رغم الغربة التي شعر بها داخل وطنه إلاّ أن حنينه إليه لا ينضب فوجوده بالغربة كان وسيبقى لرمي وجع وطن لفظه بقسوة ولو إلى حين .
قلتُ لأخي : احتفظ بلذة الحنين إلى الوطن ، ودع أشواقك ترفرف بأجنحتها في سماء مغاني بلادك المباركة ، وحاول أت تطوي كل صفحات الكآبة المرة ، والأحزان الموجعة التي تريد أن تطوي صفحة إيمانك بالله ، و وهج عزيمتك التي يجب أن تبقى متوهجة بين جنبيك ، ولا تخش مما تخفيه الأيام رغم أن أبواب الأمال تبدو مغلقة ، ومع ذلك سيبقى الباب الأوسع والأجل والأعظم هو المفتوح آناء الليل وأطراف النهار . إنه باب الله الكريم الرحيم الذي لاتخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . فالملك ملك الله ، والأمر كل الأمر بيد الله يفعل مايشاء ويحكم مايريد ، وهو على كل شيءٍ قدير . فبارك لك الله بهذا الإيمان أنت وجميع المغتربين ــ نعم رغم أقسى الظروف وكل المرارات ــ فإن مَن اعتصم بحبل الله ، وعضَّ على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالنواجذ فعندئذ تتلاشى عواصف القهر والاستكبار ... وسوف تبشرك الصباحات التي تشرق بأنوار نداءات الفجر بأن فرج الله قريب ، أيقن وتوكل على الله .
أختك / إيمان قاسم
وسوم: العدد 937