سبعٌ عجافٌ بين الجرفِ الصامدِ وحارسِ الأسوارِ
تجهد قيادة أركان جيش العدو الإسرائيلي في البحث عن أسماء لحروبها وعناوين لعدوانها، فتختار من بينها ما تراه عقيدةً وتاريخاً أنه سيكون الرد الرادع للمقاومة، والعلاج الشافي لها من شكواها، والخلاص التام من عيوبها ومشاكلها، وتعلن أن حاسوبها العسكري قد اختار هذا الاسم من بين مجموعةٍ من الأسماء المقترحة، وفق الأهداف المرجوة والغايات المقصودة، بعد التدريبات التي قام بها والمناورات الحية التي أجراها وحاكى بها حرباً مع المقاومة الفلسطينية.
لكن جيش العدو وقيادة أركانه تُمنى في كل مرةٍ بالفشل الذريع، وتعود أدراجها من أرض المعركة خائبةً، فلا تحقق أهدافها، ولا ترمم جيشها، ولا تستعيد ردعها، ولا تكسب ثقة شعبها، وتنهي عدوانها صاغرةً بينما تبقى منصات المقاومة منصوبة، وصواريخها تنطلق حتى الدقيقة الأخيرة من الحرب، ورجالها يجوبون الأرض ويقفون على الحدود والأسلاك الشائكة بكل قوةٍ وتحدي، وجرأةٍ وإصرارٍ.
سبعة سنواتٍ تفصل بين الحربين الإسرائيليتين على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فقد وقعت الأولى التي أطلقوا عليها اسم "الجرف الصامد" في العام 2014، واستمرت 51 يوماً ضارياً، واندلعت الثانية التي أسموها "حارس الأسوار" في العام 2021، واستمرت 11 يوماً قاسياً، وقد كان العدو ينشد في الحربين كي وعي الشعب الفلسطيني، وتفكيك مقاومته، ونزع سلاحها، وقتل رجالها، وإجبارها على الخضوع والتسليم، لتأمين مستوطناته، وتطمين مستوطنيه، والخلاص من تهديد المقاومة لهم وتعكير صفو حياتهم، وتنغيص عيشهم بالصواريخ التي لا تغيب عن سمائهم، وبعمليات الإرباك الليلي التي تطير النوم من عيونهم.
في الأولى التي دك فيها العدو قطاع غزة بكل أنواع الأسلحة المدمرة، وخاطر بجيشه في اجتياحٍ بريٍ محدود تمزق فيها صفه، وتصدعت فيها جبهته، وذهبت هيبته، وخسر خلالها العشرات من جنوده وضباطه، وفقد فيها –وفق ما هو معلن- اثنين من جنوده على أرض المعركة أسرى بين أيدي رجال المقاومة، لم يتمكن جيشه خلالها من فرض معادلاته الجديدة، وبسط سيادته الموعودة، واضطر إلى وقف العدوان والقبول بالشروط الجديدة التي فرضتها المقاومة بصمودها، وحققها الشعب بصبره وثباته، ورسخها بعطائه وتضحياته، وعاد المقاومون إلى معسكراتهم ودخلوا من جديد إلى أنفاقهم، يعدون العدة من جديد، ويستعدون للمعركة القادمة نحو الوعد الأكيد.
أما في الثانية التي فصلته عن سابقتها سبعة سنواتٍ، فقد ظن العدو أنه استطاع أن يحقق خلالها الردع، وأن يعيد التوازن في ميزان القوى، فأعد خطته الشهيرة "تنوفا"، وقَوَّى جيشه ودربه، وزوده بالمزيد من الأسلحة الحديثة والمتطورة، وحَدَّثَ بنك معلوماته، وحَدَّدَ بدقةٍ أهدافه، وقرر أن يخوض حربه الجديدة وفق آماله القديمة وأحلامه السابقة، التي تتمثل دائماً في تدمير مقدرات المقاومة ونزع سلاحها وتفكيك مجموعاتها، وزاد على ذلك أمله في استعادة جنوده الأسرى وتحريرهم دون أن يكون مضطراً إلى دفع أثمانٍ كبيرة، يؤديها من سجونه ومعتقلاته حريةً للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، ولكن المقاومة الفلسطينية أفشلته وخيبته، وأيقظته بالقوة من سكرته، وأعادته بالصدمة إلى واقعه، ونبهته إلى استحالة تحقيق أحلامه.
اليوم وبعد سبعة سنواتٍ يحيي الإسرائيليون بغصةٍ وألمٍ ذكرى حربهم "الجرف الصامد"، يجترون فيه أحزانهم المريرة، ويتذكرون خيباتهم الكبيرة، ويستعيدون جراحهم الغائرة، ويحيون ذكرى من فقدوا في عدوانهم، ويسلطون الضوء على المصابين من جنودهم وضباطهم، ممن تركت الحرب في أجسادهم عاهةً مستدامة، أو خلفت في عقولهم ونفوسهم بالصدمة مرضاً نفسياً وخوفاً أبدياً.
يدرك الإسرائيليون يقيناً أن السنوات السبعة التي مضت كانت فرصةً للمقاومة أكثر مما كانت فرصةً لهم، وأنها كانت عجافاً عليهم بينما كانت سنابل غنية ًمثقلةً بالحصاد للفلسطينيين، فقد استعادت المقاومة خلالها رباطة جأشها، وعادت إلى مواقعها ومعسكراتها، وعوضت ما فقدت من ترسانتها الصاروخية، وزادت عليها الجديد والدقيق والبعيد المدى، وبدأت رحلة الإعداد والتجهيز للمعركة القادمة والحرب الجديدة.
يظن الفلسطينيون ويأملون كثيراً، ألا تكون هناك أكثر من سبعة سنواتٍ أخرى جديدةٍ تفصلهم عن العودة والتحرير، فالحرب القادمة التي يتطلعون إليها ستكون قريبةً، وستجري أحداثها وتقع فصولها خلف الحدود، وعلى أرضهم المحتلة عام 1948، يحررونها من المستوطنين الغاصبين، ويستعيدونها من الإسرائيليين المعتدين، ويطردون منها الغزاة المحتلين.
ولعل الإسرائيليين يعلمون ذلك أيضاً، ويدركون هذا اليوم يقيناً، ويعلمون أن ما بعد حرب الفرقان وحجارة السجيل والعصف المأكول وسيف القدس ليس إلا التحرير والعودة، وأن معارك الرصاص المصبوب وعامود السحاب والجرف الصامد وحارس الأسوار ليست إلا وهماً يخدعون بها أنفسهم، وسراباً يمنون بها شعبهم، فحصادها مرٌ عليهم، ونتائجها كارثية على كيانهم، بينما السبع المثاني التي جاءت منها أسماء معارك المقاومة، فإنها ستكون دوماً فتحاً لها ونصراً، وستكون أبداً عجافاً على العدو ووبالاً، وخاتمةً لكيانهم وزوالاً.
وسوم: العدد 937