القيم الإنسانية في القرآن الكريم
أولى آيات القرآن الكريم كانت تحض على القراءة والتعلم وأفردت الإنسان من دون سائر المخلوقات لهذه المهمة ، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}) ، الإنسان المخلوق العاقل الوحيد الذي يملك القدرة على التعلم ، لذا أوكلت هذه المهمة له بإمتياز ، فالملائكة رغم إنهم مخلوقات عاقلة ألا إنهم جهة تنفيذية ، الله يأمرها وهي تنفذ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة31 ، أما المخلوق العاقل الأخر (الجن) ، فهذا المخلوق قادر على التعلم الجزئي مع عجزه عن تحمل مسؤولية العلم ، الكائنات الأخرى غير العاقلة قادرة على التعلم الجزئي لا الكلي ، تعلمها محدود في موارد الأكل والشرب والجنس والقطيع ، بذا هي غير قادرة على تحمل مسؤولية العلم ايضاً ، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72 ، من هنا تتضح قدرات الإنسان على التعلم الكلي وتحمل أعباء العلم والمعرفة ، فالتعلم وحده لا يكفي دون تطبيق أو تنفيذ وهنا يأتي دور العبأ الثقيل الذي تكفل بحمله .
رغم وجود كائنات ملكوتية عاقلة كالملائكة ، وكائنات سفلية عاقلة كالجن ، ألا إن الاختيار وقع على الإنسان من دونها لحمله مميزات وخصائص كلا المخلوقين العاقلين الأخرين ، وتفوقه عليهما في الخصائص الخلقية ، فمن جهة يملك الروح الملكوتية السامية كالملائكة ويتفرد بالجسم المادي والغرائز كالجن ، فإن وفق بين الرغبات الروحية والشهوات الجسمانية وأحكم سيطرته عليها كان أسمى من الملائكة وأرفع درجة ، وإن أفلت الزمام تأخذه الرغبات الجسمانية الى عالم المادة والتسافل في درجاته فيساوي الجن والشياطين من حيث المادية والرغبات المنفلتة وقد يتوغل أكثر الى درجات أسفل منهم بكثير .
ذاك من الجانب الروحي ، أما من الجانب المادي (الجسماني) فهو ككائن حي يتفوق ويسود الكائنات الحية الأخرى ، ألا إنه يحتاج ما تحتاج اليه تلك الكائنات من طعام وشراب و راحة ونوم ، ويملك ما تملك من غرائز كالجنس وحب السيطرة والتملك ، بداخله يعيش أو يتعايش مع ثورة وصراع بين العقل ورغبات الجسد ، يتأرجح بينهما ، تارة يتغلب العقل فيسمو ويرتقي ، وتارة تتغلب رغبات النفس فيساوي الكائنات الحية بدرجتها ، عندها لا يكتفي بهذا المستوى بل يتمرغ أكثر الى درجات تترفع عنها تلك الكائنات {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44 .
من هذه الجوانب وغيرها نلاحظ إن القرآن الكريم تعامل مع الإنسان على إنه مخلوق مميز يجمع بين القيم الملكوتية السماوية (عالم الروح النقية) والقيم المادية الأرضية (عالم الجسمانية والرغبات) فإن تمكن من السيطرة والتوفيق بينهما يكون بذا :
1- خليفة الله في الأرض : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30 ، بل قد يصل الأمر أن يكون الإنسان هوية الله في الأرض كما أشار بعض العلماء.
2- وجود العنصر الملكوتي فيه خير مؤهل له للسمو والارتقاء : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر29 ، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }السجدة9 .
3- وجود العنصر الملكوتي فيه يحفزه أو يدفعه للبحث عن الله ، فالإنسان بفطرته يبحث عن قدرة هائلة لا مادية يركن لها كي يشعر بالطمأنينة بقربها ، لكنه أخطأ وعبد الماديات ، وربما صنع معبوداً له بيديه ، طلباً للسكينة واستقرار النفس والروح اللامادية ، فلم يجد تلك الطمأنينة التي طالما بحث عنها في تلك المعبودات المادية وإن تظاهر بشيء من ذلك ، السكينة والطمأنينة من مختصات الروح ، والروح لا تنسجم إلا مع عالمها ومصدرها {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد28.
4- القدرة على التعلم والعقل المنفتح المستنير : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة31 ، (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}) العلق ، وهذا خير مؤهل له ليحكم أو يقود العالم بقسميه المادي واللا مادي .
5- الانسان هو الكائن الوحيد القادر على تحري وجود الله ومعرفته وفقاً الى امكانياته العقلية وتحمله الشخصي وبالتالي الاتصال به بطريقين عام وخاص:
أ- عام : كما تشير الآية الكريمة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172 .
ب- خاص أو شخصي : كما أشارت الآية الكريمة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ }الروم43 .
6- الانسان يتمتع بشخصية مستقلة وحرة ، ويملك حق الاختيار ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً{3}))الانسان ، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }البلد10 ، ويتحمل مسؤولية اختياره بنفسه {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }النجم38 .
بشخصيته المستقلة وحرية الاختيار تحمل المسؤولية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72.
7- الانسان يتمتع بالكرامة والشرف ، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70 ، وهذه ميزة تميزه عن سائر الموجودات كنتيجة بديهية للنقاط أعلاه.
8- الانسان يملك وازع اخلاقي (الضمير) كما تشير الآيات القرآنية الكريمة ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10})) الشمس ، بالأخلاق يكتسب فعل الخير ويتجنب فعل الشر برعاية وإشراف مباشرين من الضمير الإنساني.
9- الأرض وما فيها خلقت للإنسان {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }البقرة29 ، وترك له حرية التصرف {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }يونس26 ، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }الإسراء7 .
10-الحقائق والمعلومات الغيبية لا تنكشف له إلا بعد وفاته {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }ق22 .
11- العلة من خلقه عبادة الله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56 ، وكل ما يتعلق بالعبادة من امور.
12- في نهاية المطاف ، وفي المرحلة الأخيرة من حياته ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي{30})) الفجر ، الاطمئنان يرضي النفس عن نفسها ويرضيها بما ستنال من رضا الله جل وعلا والدخول في العباد ومن ثم الدخول الى الجنة {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }النازعات41 .
وسوم: العدد 938