«بيغاسوس» وحلف الصهيونية والاستبداد العربي
طالما ادّعت الدولة الصهيونية أنها واحة ديمقراطية وسط صحرا الاستبداد العربي، بل تصوّر الدولة الصهيونية ذاتها على أنها جزء من النخبة العالمية التي تشكّلها منظومة الدول الغربية القائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي إحدى حججها الرئيسية في استدرار عطف حكومات تلك الدول وشعوبها. وبالطبع، ليس نفاق هذا الادّعاء سرّاً على كل من يدرك أن الديمقراطية الصهيونية تقتصر على اليهود، أي أن إسرائيل دولة «إثنوقراطية» (حكم جماعة إثنية على سواها) كما يصنفّها بعض دارسيها الأكاديميين العرب واليهود. كما أنه من المعلوم أن الدول الغربية ذاتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، طالما ساندت حكومات استبدادية في شتى ربوع العالم، ولاسيما في ربوعنا العربية، عندما ينسجم ذلك مع مصلحتها.
كل هذا معلوم. ومع ذلك فإن الدولة الصهيونية قد أثبتت أنها قادرة على الذهاب إلى أبعد من أي دولة أخرى تدّعي القيام على حقوق الإنسان في مساهمتها في الطعن بهذه الحقوق، كما بيّنته قصة برنامج «بيغاسوس» التجسّسي الذي أنتجته «مجموعة إن إس أو للتكنولوجيات»، وهي شركة سمّيت بالحرف الأول للاسم الأول بالأحرف اللاتينية لكل من مؤسسيها الإسرائيليين الثلاثة، وهم نيف كارمي (إن)، وشاليف هوليو (إس) وأومري لافي (أو)، وجميعهم أعضاء سابقون في «الوحدة 8200» من سلاح الاستخبارات الإسرائيلي (هامان)، وهي الوحدة المتخصّصة بالاستخبارات الإشاراتيّة (أي كل ما يتعلّق برصد الإشارات الإلكترونية).
ولا تظنّن أن الأمر يتعلّق بشركة خاصة فضّلت الربح على المبادئ أياً كانت، كما هو مألوف في بحيرة القروش التي تُطلق عليها تسميتا اقتصاد السوق والقطاع الخاص، بل يتعلّق الأمر هنا بالحكم الصهيوني مباشرة، وهو صاحب القرار في كل ما يخصّ الصادرات التكنولوجية المتقدمة، إذ تخضع هذه الصادرات لترخيص تمنحه وزارة الدفاع الإسرائيلية. فإن كافة الفضائح التي ضجّ بها الإعلام العالمي في الأشهر الأخيرة، وفي الأيام الأخيرة على الأخص بعد كشف 17 صحيفة في شتى البلدان واللغات عن التحقيق الذي أنجزته منظمتا «العفو الدولية» و«القصص الممنوعة» والذي رصد أكثر من خمسين ألف رقم هاتف خليوي جرى التجسّس عليها من قِبَل مختلف الحكومات التي اشترت برنامج «بيغاسوس» التجسّسي من الشركة الإسرائيلية بترخيص من حكومتها، كافة هذه الفضائح إنما هي في المقام الأول إدانات صارخة لنفاق الدولة الصهيونية التي تفوق مسؤوليتها بكثير مسؤولية «مجموعة إن إس أو للتكنولوجيات».
فإن قائمة زبائن المجموعة الإسرائيلية ومحرّماتها في منطقتنا من العالم خير دليل على رؤية الدولة الصهيونية لعلاقاتها الإقليمية، حيث نجد بين زبائن الشركة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة المغربية، وقد انضمت الدول الثلاث مؤخراً إلى قافلة «التطبيع» العربي الرسمي مع إسرائيل، كما نجد المملكة السعودية بالرغم من استمرارها الرسمي بالالتزام بالمقاطعة العربية، بينما لا نجد إيران وحسب بين الدول التي حُرّم على الشركة بيعها تكنولوجياتها، بل أيضاً قطر وتركيا وفقاً لما جاء في تحقيق نشرته مجلة «إم آي تي تكنولوجي ريفيو» في عددها الصادر في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي.
ومن المعلوم أن الفضائح المتعلقة ببرنامج «بيغاسوس» بدأت تنتشر إثر مقتل جمال خاشقجي في عام 2018 وقد جرى اتهام «مجموعة إن إس أو» بتزويد الذين دبّروا ذاك الاغتيال الآثم بما ساعدهم على رصد تحرّكات الصحافي السعودي. وتدّعي الشركة الإسرائيلية أنها أرادت بعد ذلك أن تقطع تعاونها مع مدبّري الاغتيال، لكنّ الحكومة الصهيونية «شجّعتها بقوة» على المضي في تعاونها معهم، حسبما جاء في تحقيق نشرته صحيفة «نيويورك تايمس» يوم السبت الماضي. بل كشفت الصحيفة أن هذا التعاون التكنولوجي لا يقتصر على «مجموعة إن إس أو» وبرنامجها التجسّسي، وقد جاء في التحقيق الذي نشرته ما يلي:
«رخّصت وزارة الدفاع الإسرائيلية أيضاً شركة تُدعى «كانديرو» للعمل في السعودية، وهي شركة اتهمتها «مايكروسوفت» في الأسبوع الماضي بأنها ساعدت زبوناتها من الحكومات على التجسّس على أكثر من مئة صحافي وسياسي ومعارض ومدافع عن حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم … وقد منحت إسرائيل أيضاً ترخيصاً لشركتين أخريين على الأقل، هما «فيرينت» التي تم ترخيصها قبل مقتل خاشقجي و«كوادريم» التي وقعت عقداً بعد المقتل.»
خلاصة الحديث أن «واحة الديمقراطية» الصهيونية ليست في الحقيقة سوى سراب في صحراء الاستبداد الإقليمي، لا تختلف جفافاً عن الصحراء، بل تشكّل في الواقع سبباً هاماً من أسباب تجفيفها.
وسوم: العدد 938