لا يحيق ضرر الأنانية أو الأنا المتضخمة إلا بأصحابها
من العبارات الشائعة في مجتمعنا المغربي تعوذ المتحدث بالله عز وجل من استعماله كلمة " أنا " أثناء ورودها في كلامه ويكون ذلك جملة اعتراضية ، وهو في الحقيقة تعوذ من محاكاة قول إبليس اللعين الذي حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى :
(( قال ما منعك أن تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ))
ومعلوم أن لفظة " أنا " تستعمل استعمالين : أحدهما عبارة عن إشارة عادية من المتحدث عن ذاته أوعن نفسه يقتضيها سياق حديثه ، والثاني عبارة عن إشارة فيها تعال وكبرياء وزهو وغرور، وتكون في سياق المباهاة أثناء مقارنة المتحدث نفسه بغيره في أمر من الأمور، كما كان شأن إبليس اللعين وهو يقارن طبيعة خلقه النارية بطبيعة خلق آدم عليه السلام الطينية .
وانتقلت لفظة " أنا " الدالة على التعالي والكبرياء والغرور من إبليس اللعين إلى الإنسان ، فصار كثير من الناس يستعملونها في أحاديثهم ، مع أن بعضهم إذا استعمالها تعوذ بالله عز وجل منها ومن أن تكون دلالتها إبليسية .
وعند التأمل في استعمال إبليس اللعين عبارة " أنا خير منه "، وهو يقارن نفسه بآدم عليه السلام أن الذي حوّل لفظة " أنا " من الاستعمال العادي المقبول إلى الاستعمال المتعالى المذموم هو قوله " خير منه " التي تفيد التفضيل . ومعلوم أن التفاضل لا يستقيم بين شيئين إلا إذا كان في أحدهما ما يجعله هو الأفضل . وإذا لم يكن ذلك فالتفاضل باطل ، ويتعلق الأمر حينئذ بادعاء باطل للأفضلية كما كان الشأن بالنسبة لإبليس اللعين .
والغالب في ادعاء الناس أفضليتهم على غيرهم بالطريقة الإبليسية أن يكون ذلك بسبب تنافس فيما بينهم على مكانة أو مركز أو فوز أو امتياز أو مصلحة أو شهرة أو سمعة ... أو غير ذلك مما يتنافسون فيه ،وهم في ذلك إما متساوون أو متفاوتون ، فإذا ما كانوا متساوين ،فلا حاجة ولا مبرر حينئذ إلى التفاضل فيما بينهم ، أما إذا ما تفاوتوا، فإن ادعاء المتخلف عن الأفضيلة من المتقدم عليه يكون حينئذ باطلا ، ولا مبرر له سوى المكابرة .
والادعاء الباطل للأفضلية بين المتنافسين من الناس كثيرة أشكاله ، ويطول الحديث عنها إلا أن ذكر بعضها تمثيلا لا حصرا في هذا المقام يفي بالغرض ويغني عن الإطالة والإسهاب .
وأقبح أشكال ادعاء للأفضلية ما كان تفاضلا في النوع أو في الجنس أو في العرق أو في اللسان بين الناس، وهم من طبيعة طينية واحدة ، ومن أصل واحد، وهي أمور لا يستقيم فيها التفاضل لتساوي الناس فيها ، وكل تفاضل فيها باطل وهو كالتفاضل الذي قصده إبليس اللعين حين فضل طبيعته على طبيعة آدم عليه السلام مع أن كليهما مخلوق ، وهما متساويان في الخلق ، ولا مجال في ذلك للتفاضل .
ولا زال الناس إلى يومنا هذا يتفاضلون بما لا يستقيم معه التفاضل، وقد سارت البشرية أشواطا بعيدة في العلم والمعرفة والتطور الحضاري ـ يا حسرتاه ـ إذ لا زالت أمم وشعوب تتباهى على غيرها بأفضلية متوهمة مردها إلى عرق أو جنس أو لغة ، وقد ورث بعضها ذلك من أساطير وخرافات عن أسلافهم لا تستقيم في عقل أو منطق، ومع ذلك لا زال التشبث بها قائما ، وقد ترتبت عن ذلك قوانين جائرة وباطلة ،وهي خافضة لبعض الأمم والشعوب ورافعة لبعضها الآخر في تفاضل باطل لا يستقيم ، فإذا ما أريد تصحيحه اعتبره المتعالون بذلك على غيرهم معادة لهم و جرما يستوجب العقاب.
ولا زال الناس في هذا العالم يفاضلون المفاضلة الباطلة التي لا تستقيم بين الذكور والإناث على أساس الجنس مع علمهم علم اليقين أن الله عز وجل خلقهما من نفس واحدة ، ومن كانا أصلهما واحد ،فمن الباطل بل من السخف والعبث المفاضلة بينهما .
ومعلوم أن التفاضل بين الناس ذكورا وإناثا إنما يكون في سعيهم لا في طبيعتهم الخلقية كما جاء في قول الله تعالى في محكم التنزيل : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) ،وهذه الآية الكريمة واضح فيها أمر التساوي في الخلق واستحالة التفاضل فيه ، وواضح فيها أيضا أمر التفاضل في السعي .
وأول من يحيق به ضرر " الأنا " المتضخمة المتبجحة عن باطل هم أصحابها تماما كما حاق بإبليس اللعين الهبوط والخروج من حيز الجنة التي لا مكان فيها لذي كبرياء ، وهما عبارة عن هبوط وخروج لهما جانب مادي وآخر معنوي حيث اجتمع فيهما على إبليس اللعين الطرد واللعنة وسوء المصير في الآخرة . ومصير كل مستعمل من الناس للفظة " أنا " على طريقة إبليس اللعين يكون كمصير هذا الأخير تماما له جانب مادي وآخر معنوي، وفي التاريخ البشري شواهد وأدلة على ذلك، نكتفي بذكر واحد منها يفي بالغرض ،وهو وارد في القرآن الكريم ، ويتعلق الأمر بفرعون الذي استعمل "الأنا "الإبليسية المتضخمة متعاليا على نبي الله موسى عليه السلام في مقارنة باطلة كما قال الله تعالى حكاية عنه : (( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين )) مباهيا بملكه وسلطانه وخلقته وطلاقة لسانه ، وقد جاء في كتب التفسير أن لفظة " أم " في الآية الكريمة لا تفيد الاستفهام بل معناها " أنا خير " . وكم بعد فرعون من عظماء مستكبرين في الأرض حاق بهم ضرر أناهم المتضخمة ماديا ومعنويا ، وما أمثالهم منّا ببعيد في عصرنا هذا .
وبناء على ما تقدم، فإنه يجدر بكل من تحدثه نفسه باستعمال "الأنا" الإبليسية أو الفرعونية أن يتوقع مثل مصيرهما في الدنيا والآخرة ، وأن يكون له فيهما عبرة ووازع يمنعه من ذلك . وصدق من يتعوذ بالله عز وجل من استعمال بفظة " أنا" في خطابه تماما كما يتعوذ من الشيطان الرجيم . وما أمر الله تعالى في محكم التنزيل نبيه صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من الشيطان الرجيم إذا قرأ القرآن الكريم في قوله جل شأنه : (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )) ، وهو أمر أيضا لعباده المؤمنين إلا لمنع وساوسه عنهم ، وتذكيرهم بتكبره الذي أقسم أن يبثه في بني آدم انتقاما منهم ، ويكون ذلك بتضخيم " الأنا " الذي لا يحيق ضررها في نهاية المطاف إلا بأصحابها .
والكيس من الناس من إذا ما حدثته نفسه باستعمال "الأنا" الإبليسية المتضخمة مع غيره حثا التراب على رأسه لكبح جماحها وإذلالها ، وسأل العفو والصفح ممن استعلى عليهم من خلق الله مكابرا مسيئا إليهم بذلك، علما بأن الإساءة إلى الغير مهما كان نوعها جدا أو هزلا إنما تكون عن كبرياء وتعال وتعاظم وغرور يجده المسيئون في نفوسهم، وتحدثهم به بل تزينه لهم وبئس ما تحدثهم به وما تزينه لهم. والعزة إنما تكون في التواضع لله عز وجل ولخلقه بينما تكون الذلة في التكبر عليه سبحانه وتعالى وعلى خلقه .
وسوم: العدد 944