تركيا… الانقلابيون في السجون بعد سنوات
في الوقت الذي تواصل فيه بعض الجهات خططها للقيام بانقلابات عسكرية في الشرق الأوسط، أرسلت السلطات التركية الأسبوع الماضي إلى السجون جنرالات نفذوا انقلابا في البلاد قبل 24 عاما. فقد حُكم بالسجن مدى الحياة على مدبري انقلاب 28 فبراير/شباط، الذي سجله التاريخ السياسي التركي باسم «انقلاب ما بعد الحداثة» وأجبر رئيس الوزراء آنذاك على الاستقالة، وذلك نتيجة محاكمات بدأتها محكمة مستقلة عام 2013 من قبل محكمة مستقلة. وقع انقلاب 28 فبراير ضد نجم الدين أربكان (زعيم حزب الرفاه) رئيس وزراء الحكومة الائتلافية التي تشكلت عام 1997 من حزبي «الرفاه» و»الطريق القويم» (الحكومة الـ54).
بعد سنوات، أحيل ملف هذا الانقلاب إلى القضاء، وتم اقتياد الجنرالات الذين نفذوه من منازلهم لإرسالهم إلى السجون، وهذا الحدث يدل على انطلاق حقبة مهمة للغاية بالنسبة إلى تاريخ تركيا. لقد كانت العلاقات العسكرية – المدنية في تركيا الحديثة، إشكالية بشكل عام، وانتهت هذه العلاقة المتوترة بتنفيذ انقلابات بين الحين والآخر، نظراً لاعتماد الجنرالات على الدعم الذي يتلقونه من القوى الأجنبية، وعدم ثقتهم في الجانب المدني، وكذلك حقيقة أنهم يعتبرون أنفسهم أوصياء على قيم الجمهورية.
ولا شك في أن جميع انقلابات هؤلاء الجنرالات، الذين يرون أنفسهم حماة البلاد، سواء في تركيا، أو في بلدان أخرى في الشرق الأوسط، ضد الأحزاب السياسية الإسلامية، أو الأحزاب ذات الآراء الأخرى، كانت مدعومة من قبل قوى أجنبية ولم تكن في مصلحة البلد على الإطلاق، وتسببت الانقلابات بتراجع الدول إلى الوراء سياسياً واقتصادياً، وتعثرت تلك الدول وسط الفوضى والأزمات.
على دول هذه المنطقة أن تتعلم كيف تمارس السياسة بطريقة جيدة ومحكمة وتتخلى عن إلقاء اللوم على بعضها بعضاً
وقعت انقلابات ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في تركيا في أعوام 1960 و1971 و1980 وأخيراً في 28 فبراير 1997. وكان لـ»انقلاب ما بعد الحداثة» مسار مختلف تماماً عن المحاولات الأخرى، فلم يتم اللجوء إلى الطرق التقليدية، على عكس الانقلابات السابقة، وتمت الاستعانة بظروف العصر للحصول على دعم واسع.. كما استُخدمت وسائل الإعلام لأغراض مثل إقناع الجماهير، وتهيئة الظروف للانقلاب، والتمييز بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول لدى الشارع. وبينما كان مثل هذا الانقلاب يحدث في تركيا، لم ترغب الدول الغربية في اعتباره انقلابا، بل فسرته على أنه دفع بحكومة إسلامية تجاوزت حدودها إلى المسار الصحيح، تماما مثل ما يحدث في بعض الدول العربية في يومنا الحاضر.
من المؤكد أن منفذي الانقلابات التي وقعت في مختلف المناطق، بدءا من بلدان أمريكا اللاتينية، وحتى آسيا والشرق الأوسط وافريقيا، لم يسلموا من العواقب أبداً. ونتيجة للانقلابات التي جرت في دول إسلامية بذريعة الأحزاب السياسية الإسلامية، تم منح كل مصالح البلاد للقوى الغربية، وعند النظر إلى جميع دول الشرق الأوسط، وفي مقدمتها تركيا، سنرى في النهاية النتائج نفسها حتما. الشعوب تصدق الجنرالات الذين يمتلكون السلطة في البداية، لكنها بعد ذلك تواجه العواقب المريرة، ثم تدعم الشعوب مقاضاة وسجن الجنرالات الانقلابيين من قبل تشكيلات سياسية مدنية قوية، لأنها تكتشف بشكل صريح أكاذيب الانقلابيين وترى كيف سقطت المصالح الوطنية للبلاد ضحية لأطماع الدول الأخرى. ولا أعتقد أن هذه التطورات التي تشهدها تركيا اليوم بعيدة كثيراً بالنسبة إلى بقية الدول في الشرق الأوسط. في خضم ما تشهده تركيا من أحداث خلال الفترة الأخيرة، يواصل الإعلام العالمي تركيزه في العناوين الرئيسية على وصول حركة «طالبان» إلى السلطة في أفغانستان. ومع انسحاب الولايات المتحدة، أتيحت لـ»طالبان» فرصة الترويج لفكرة «هزمنا كلاً من روسيا والولايات المتحدة». وحتماً، سيكون لهذا تأثير في سياسات الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، من الواضح أن الانسحاب الأمريكي نقل عن غير قصد رسالة إلى الكثيرين مفادها «لا يمكننا أن ننجح إلا بالقتال، وليس بالانتخابات». كيف سيكون تأثير هذه التطورات في الشعوب العربية اليائسة، التي لا تزال تصارع الانقلابات؟ أعتقد أن الوقت قد حان للمثقفين في هذه المنطقة لإعادة تحليل ما جرى خلال الفترة بين 1979-2021 بشكل أفضل. فبينما ترسل دول هذه المنطقة الانقلابيين إلى مزابل التاريخ، عليها أن تتعلم بعد اليوم كيف تمارس السياسة بطريقة جيدة ومحكمة وتتخلى عن إلقاء اللوم على بعضها بعضاً.
وسوم: العدد 944