استسقاء وموتوسيكل وإلى آخره…
يوميات بيروت ولبنان مثيرة ومسلية ومحزنة وعبثية وتراجيدية في آن معاً.
هذا الوطن الصغير منعته الأزمة ومنعت عرّابه الفرنسي من الاحتفال، في أيلول-سبتمبر من العام الماضي، بالذكرى المئوية لإعلان تأسيسه، عبر إطلاق اسم «دولة لبنان الكبير» على المتصرفية التي أُلحقت بها المدن الساحلية ووادي البقاع.
مشكلة لبنان أنه صدّق صفة الكبير التي أطلقها عليه الجنرال الفرنسي غورو، إلى درجة أن النوستالجيا اللبنانية التي اشتعلت بعد نهاية الحرب الأهلية، حوّلت الأكاذيب إلى أساطير. فصار تاريخ لبنان الكبير مجموعة من الأساطير التي لا إجماع لبنانياً عليها، لكنها سادت، ومعها ساد شعور بالعُظامية وصل إلى ذروتيه مع شاعر كبير وجنرال صغير.
لبنان يعيش اليوم وسط ركام العظمة التي صارت أضحوكة، «نفيان لا يصنعان وطناً» حسب تعبير الصحافي الفرنكوفوني جورج نقاش. وما فات السيد نقاش اكتناهه هو أن الطوائف لا تصلح لبناء دولة، وهذا ما اكتشفه فؤاد شهاب، الرئيس الإصلاحي الوحيد في الجمهورية، عندما رفض إعادة ترشيح نفسه للرئاسة، مشيراً إلى الخلل البنيوي الطائفي في الدولة وإلى التوازنات الإقليمية التي تخلخلت بعد الهزيمة المصرية في حرب حزيران-يونيو 1967.
لا أريد العودة إلى الماضي، ولم يعد أحد معنياً بتفكيك الخطاب اللبنانوي العظامي، فهذا الخطاب بدأ يتهافت خلال الحرب الأهلية، ووصل اليوم إلى ذروة انهياره مع انكشاف أوليغارشية الطوائف الحاكمة بصفتها عدواً للدولة وأداة تقاسمها وتفكيكها. لقد حوّلتْ هذه الطغمة الدولة إلى مزارع وإقطاعات ونهبتها وسرقت أموال الناس، وهي تقود البلاد إلى كارثة سياسية واقتصادية لا مثيل لها.
في الماضي، فرح اللبنانيون عندما صرح ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي قبل اختفائه، من أنه يخشى على بلاده من اللبننة.
فرح الناس لأن بلادهم صارت نموذجاً عالمياً، إلى درجة أن كلمة لبننة دخلت في قواميس شتى اللغات كصفة تدل على انهيار الدول.
أما اليوم، فنحن نصلّي الاستسقاء، ليس ابتغاء لهطول المطر، بل ابتغاء لهطول البنزين! ونحتضن غالونات البنزين والمازوت كأنها أطفالنا، ونشحذ فتات أموالنا من البنوك، ونصاب بالجنون والغضب أمام رفوف الصيدليات الفارغة من الأدوية.
أنا والله لا أنقّ، كما نقول في العامية، ولا أصف، لأن ما نعيشه يتجاوز الوصف. أكتب بهدوء ولا أنبح كما فعل المسرحي وجدي معوض أمام الكاميرا، أنا فقط أتأمل في هذه اللحظة وأحاول التقاطها قبل أن تجهز عليّ وتمنعني من الرؤية والكلام.
سأروي قصتين، وهما قصتان حقيقيتان وليستا من صنع الخيال. القصة الأولى شهد عليها الجميع، وبُثت مقاطع مصورة منها على الشاشات اللبنانية، أما القصة الثانية فقد شهدتها بنفسي، وعشت خلالها لحظات من رعب الموت احتراقاً.
القصة الأولى حصلت يوم الجمعة الماضي أمام محطة «كورال» للبنزين في الجيّة. كان الطقس حاراً والسيارات تتكدس في الشوارع انتظاراً للسائل السحري، وفجأة رأى الناس منصة اعتلاها شيخ مُعمم داعياً الناس إلى الصلاة. انتظم الناس بعفوية أمام المنصة وبدأت الصلاة.
لا أعلم كيف وجد المصلون حلاً لمسألة الوضوء، هل تيمموا بسرعة أم استخدموا مياه الشرب من القناني التي كانت معهم؟ ليس هذا مهماً، فالإنسان يستطيع التأقلم مع كل شيء. وارتفعت أدعية المصلين طلباً للبنزين الذي صار ترياق الحياة في لبنان الكبير. هكذا أيها السيدات والسادة، بدل استسقاء مطر السماء صار على اللبنانيين استسقاء السائل الأسود من باطن الأرض.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد ارتسمت أمامي صورة الشاعر السوري الكبير نزار قباني عندما كتب بعد حرب تشرين – أكتوبر 1973، وبعد قيام الدول العربية بوقف ضخ النفط للضغط على الأمريكيين، بأنه سيهدي حبيبته قارورة بنزين بدل قارورة عطر. هذه العبارة التي بدت فجة ومتسرعة يوم كتابتها منذ أكثر من أربعة عقود تصلح اليوم للبنان. فقارورة البنزين صارت أثمن من قارورة العطر، والتعطر بالبنزين سيصبح جزءاً من الأعجوبة اللبنانية وينضم إلى قاموس عمليات التجميل التي حولت الصبايا إلى نسخ متشابهة.
القصة الثانية أكثر غرابة من حكاية قيام بعض المنتظرين أمام إحدى محطات الوقود بالغناء ورقص الدبكة!
منذ يومين وبعد انتظار طويل في الشارع، حظيت بسيارة أجرة تقلني إلى عملي. جلست إلى جانب السائق الذي لم يتوقف عن الشكوى والشتم والتبرم. ورغم أنني لم أعد أستسيغ هذا اللغو الذي يعبّر عن العجز والخنوع، فقد وجدت نفسي منساقاً إلى حفلة الشتائم التي جعلها السائق موضوع رحلتي الوحيد.
وفجأة، رأيت أمام السيارة دراجة نارية تتلوى بحثاً عن مخرج من زحمة السير. خلف سائق الدراجة جلس شاب يحمل في يديه غالونين كبيرين من البنزين. قلت يحمل، والصحيح أنه كان يضم الغالونين إلى صدره ويقوم بحركات متتابعة من أجل أن يحافظ على توازنه.
«انظر إلى هذا الرجل»، قال السائق، «إذا سقط الآن على الأرض سيشتعل هو والسائق والموتوسيكل».
«الله يخليك تجاوزه» قلت، «سيحرقنا معه حين سيحترق».
حاول السائق بشتى الوسائل أن يتجاوز الدراجة النارية، لكن سائقها لم يتوقف عن التمايل يميناً ويساراً بحثاً عن مخرج من الزحام، جاعلاً من مهمة سائق السيارة مستحيلة.
«شو هالنهار الطويل»، قال السائق.
أما أنا فكدت أفقد أعصابي، أغمضت عيني فرأيت الموتوسيكل يهوي أرضاً والبنزين يشتعل، حاولت الخروج من السيارة، فرأيت اللهب يحيط بي من كل مكان، ابتلعت الدخان والنار وشعرت بالاختناق، فصرخت من الألم.
سمعت صوت السائق يقول لي «هل تشكو من شيء يا أستاذ»؟
فتحت عيني، واستمعت إلى السائق وهو يقول إنه نجح أخيراً في تجاوز الدراجة النارية، بعدما قام بمناورة صغيرة التصق فيها بالدراجة موحياً بأنه سيصطدم بها، ما أجبر سائقها على فتح الطريق له.
«أنت مجنون»، صرخت به، «أريد أن أنزل هنا».
ضحك السائق، «يبدو أنك فقدت أعصابك، بدها طولة بال يا عمّ، بكرا بتتشكل حكومة وتنحل المسألة، شو رأيك بقصة الحكومة»؟
«تشكلت أو عمرها ما تتشكل، لا شيء سيتغير، كلو صابون، كلو عند العرب صابون»، قلت.
«أنت غلطان، هذا كان من زمان، اليوم صار كلو عند العرب بنزين، والبنزين بيزحّط مثل الصابون لكنه يحرق»، قال.
هكذا وصلت إلى عملي لأجد أنني فقدت القدرة على التركيز، حاولت أن أفتح الكمبيوتر، فانقطعت الكهرباء وتوقف المولد عن العمل، فقررت العودة إلى المنزل، وجلست في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة كي لا أرى.
وسوم: العدد 945