الأطياف الأربعة أشقاء في الدم والحلم
أشقاء في الدم والحلم.. الحلم بمدينة فاضلة ومجتمع مثالي وبشر أقرب إلى الملائكة.. جمعتهم الصحبة والغربة.. غربة النفس الحالمة السماوية في دنيا أرضية لا تسمو إلى مطامحهم، ولا يستطيعون هم أن يهبطوا إليها.. خرجوا من ذات الرحم ليتشاركوا نفس الألم.. ألم فراق الوالدين اللذين عاش هؤلاء الأشقاء في كنفهم وتحت مظلة حنانهم قبل أن يجدوا أنفسهم بغتةً وحدهم يصارعون أمواج الحياة، ويواجهون ابتلاءاتها.
هم أربعة إخوة، وحَّدهم اليتم.. واختصرت لوعة الفراق المسافات بينهم، فصاروا وكأنهم شخص واحد، وانصهر وعيهم في أتون التجربة التي حولوها إلى مداد وقلم سطروا بهما مكنونات نفوسهم الحائرة على أوراق العمر..
أربع أرواح هائمة في عالم الخيال .. سابحة في سماوات القلق الإنساني المشروع الذي يستشعره كل أصحاب القلوب الرقيقة حين يكتشفون عمق الهُوَّة بين أحلامهم وواقعهم، ويوقنون بأنهم ليسوا أبناء تلك الحياة المادية القاسية التي يعجزون عن التكيف مع جمودها ووحشيتها - وهم تلك الحمائم الرقيقة التي لا تعرف إلا الخيروالفضيلة...
تلك الأرواح اختارت أن تصبح في الدنيا أطيافاً عابرةً، واختارت أيضًا ألا تعبر تلك الدنيا إلا بعد أن تترك فيها آثارها.. وتشهد الله ثم الناس على خبايا صدورهم التي اعتملت وتصارعت فيها مشاعرهم الجياشة، فنسجوا منها إبداعًا راقيًا يلخِّص معاناة الإنسان النوراني في العالم الضبابي المظلم، ويشرح رؤية هذا الإنسان للكون والبشر، وتصوره الخاص للحياة والعلاقات الإنسانية بكل تشابكاتها وتعقيداتها.
هذا الإبداع هو عصارة نفوس الأشقاء - الأطياف، وخلاصة تجربتهم الحياتية.. وهو أيضًا تعبير صادق عن سماتهم الشخصية وتجسيد لمنظومة القيم التي تبنوها وتحركوا بها، وعانوا الكثير وهم يحاولون ترميم الفجوة بين هذه القيم وواقع الحياة والمجتمع في الفترة التي صاغت الأطياف فيها خطراتها، فانعكست في مرآة كل طيف في هذاالعمل الأدبي صورة صاحبه وملامح نفسه بصدق شديد منبعه صدق الطيف وعدم افتعاله أو تصنعه وهو يكتب بعض نفسه.
إن ((الأطياف الأربعة)) ليس مجرد عمل أدبي يصنف تحت شكل إبداعي، وتنطبق عليه معايير النقدية.. إنه معزوفة حزينة هادئة.. شارك في عزفها أربعة من الموهوبين كل بآلته الموسيقية، فتداخلت النغمات وتشابهت واختلفت لتصنع لحنًا واحدًا جميلاً متكاملاً، وإن تشكل من أربع معزوفات منفصلة لكل منها خصوصيتها.. ولكل منها أيضًا خيوطها غير المرئية التي تربطها بباقي المعزوفات.
إنه لحن واحد ومتنوع.. متشابه ومختلف.. ثابت ومتغير، وهذا هو سر جماله، فهو يجمع بين متناقضات، ويؤلف بينها في سلاسة ورفق منبعهما وجود عناصر مشتركة خفية بين تلك المتناقضات تجعلها إلى التناغم أقرب منها إلى التنافر.. وإلى التآلف أدنى منها إلى التشتت.. إذ هي تناقضات كيانات إنسانية بينها اختلافات فطرية.. وتشابهات مكتسبة مردها البيئة المشتركة والتنشئة الموحدة.. وهذا ما عبَّر عنه بشكل بليغ الطيف الأكبر.. وهو الشهيد ((سيد قطب ))، في مقدمته القصيرة لكتاب ((الأطياف الأربعة )) حيث وصف ملامح كل طيف بلغة سلسة بليغة تلخص عناصر تمايزه عن باقي الأطياف، وذلك بعد أن قال: ((إن كلهم أصدقاء.. وذلك هو الرباط الأقوى )) بين الصبية الناشئة المذعورة من المجهول.. والفتاة الهادئة الساربة في الماضي، والفتى الحائر الذي يحلم في اليقظة ويستيقظ في الأحلام، وعاشق المحال الذي يطلب ما لا يجد ويسأم من كل ما ينال.
إن ((الأطياف الأربعة )) هو أدب الروح، وربما يصلح هذا المصطلح كتصنيف يندرج تحته كل إبداع راق متسام، ملتزم بالقيم والأعراف في مضمونه ولغته معًا، كل إبداع يخاطب النوازع الخيّرة في النفس البشرية ويساعدها على التسامي والاستعلاء على مكوناتها الأرضية لتصبح إلى التقوى أقرب، وعن الفجور أبعد.. هذا التصنيف الذي نقترح اعتماده ونطالب المؤسسات الثقافية في أمتنا بأن تتبناه وتجابه به ((أدب الجسد )) الذي يزهو بعض المحسوبين على الحركة الأدبية بأن أعمالهم تنتمي إليه ولا يخجلون من مشاركتهم المتعمدة – باسم حرية الإبداع في هدم القيم والهبوط بالإنسان إلى الدرك الأسفل من الانحلال والإباحية..
إن مركز الإعلام العربي حين ينشر ((الأطياف الأربعة )) لا يفعل ذلك اجترارًا لتاريخ أدبي بل إحياءً وإنصافًا لإبداع كاد أن يندثرويركم تحت أعمال تحتفي بها الأوساط الثقافية المتآمرة على هوية الأمة وخصوصيتها الفكرية والأخلاقية.. وقد آن الأوان لنفض الركام وانتشال الدرر الأدبية التي تستحق الانتساب لأمة ((اقرأ)).. أمة القلم والكلمة المسطورة.. التي لابد أن تكون وسيلةً لتمكين خير أمة لا لدفعها نحو التراجع والانهيار.
وسوم: العدد 946