تنبيه المخروق ببرّ الوالدين من سوء عاقبة العقوق
مما قضى الله عز وجل في محكم التنزيل اقتران عبادته بالإحسان إلى الوالدين حيث قال جل شأنه :
(( وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربّياني صغيرا)).
وقد جاء في كتب التفسير أن فعل قضى في هذه الآية هو بمعنى حكم، وأمر ووصّى ، ويتعلق الأمر بعبادة الله تعالى دون شريك ، والإحسان إلى الوالدين دون عقوق خصوصا إذا كبرا واحتاجا إلى رعاية وعناية هما في أمس الحاجة إليهما وقد عجزا بفعل الكبر . واقتران الإحسان إلى الوالدين في حكم الله تعالى وقضائه بعبادته دون شريك دل على ما يوليه جل في علاه للوالدين من قدر لفضلهما بعده سبحانه على الأبناء ، وهو فضل لا قدرة ولا استطاعة لأحد على مقابلته بفضل مثله أو أداء واجب الشكر عليه ، ولذلك اقترن في هذه الآية الكريمة ذكر تربية الوالدين أبناءهم في صغرهم ، وهي عناية منهما بهم وهم في أضعف أحوالهم ، وهي عناية لا يمكن أن تقاس بعناية الأبناء بهما في كبرهما مهما بلغت تلك العناية ،وليست العناية اللاحقة كالسابقة بحال من الأحوال ، ولذلك أيضا أوجب الله تعالى الرحمة بهما إلى درجة التذلل لهما لسبق فضلهما وعنايتهما بالأبناء في صغرهم وهي رحمة وذل مسبوقة أيضا برحمة وذل الوالدين والأبناء صغار .
وقد جاء في كتب التفسير أن التأفف الوارد في قوله تعالى لا يجب أن يكون من الأبناء إذا رأوا من الآباء في كبرهم ما يتأذى به مثل الذي كان يرى من الأبناء في صغرهم ،وأما النهر فهو الزجر ، ويكون بالفعل كرفع اليد ونفضها ... أو بالقول كرفع الصوت لغضب أو لوم ... ، وهو ما لم يكن يصدر عن الآباء والأبناء صغار ،وأما القول الكريم ،فهو القول الحسن الجميل الباعث على ارتياح النفس ورضاها كالذي كان يصدرعن الآباء والأبناء صغار ، وشتان بين فضل سابق و آخر لاحق .
ولما كان بر الوالدين في مقام طاعة الله عز وجل كما قضى سبحانه وتعالى ، فإن عقوقهما في مقام الشرك به سبحانه وتعالى ،ولذلك كان العقوق كبيرة من الكبائر بعد كبيرة كالشرك مباشرة .
ولا يكون الشرك والعقوق إلا من جبّار ،عصيّ، شقيّ شقاوة الدارين ، وقد دل على ذلك قول الله تعالى في سياق الحديث عن برّ نبيّين كريمين هما يحيى بن زكرياء ، وعيسى بن مريم عليهم جميعا أفضل الصلوات وأزكى السلام، أما نبي الله يحيى عليه السلام فقد قال عنه سبحانه وتعالى : (( وكان تقيا وبرّا بوالديه ولم يكن جبّارا عصيّا )) ، وأما نبي الله عيسى عليه السلام فقد قال سبحانه وتعالى على لسانه : (( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّا وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيّا )) ، ففي الآيتين معا تقترن طاعة النبيين الكريمين لله تعالى بالبر حيث كان نبي الله يحيى عليه السلام تقيّا مطيعا لربه سبحانه وتعالى وبارّا بوالديه ، كما كان نبي الله عيسى مصليّا ومزكيّا طاعة لربه سبحانه وبارّا بوالدته وكلاهما لم يكن جبّارا ، وقد جاء في كتب التفسير أن الجبّار هو المستكبر المستخف بحقوق الغير كأنه مشتق من الجبر وهو الغصب والقسر .
ولقد تلا نفي صفة الجبروت عن النبيين الكريمين عليهما السلام نفي صفة العصيان عن نبيّ الله يحيى ، وصفة الشقاوة عن نبي الله عيسى. وليس من قبيل الصدفة أن ترد هذه الصفات المذمومة المستقبحة في سياق الحديث عن بر الوالدين بالنسبة لنبي الله يحيى ، وبر الوالدة بالنسبة لنبي الله عيسى عليهما السلام، ذلك أنها صفات تلازم الخارج عن طاعة الله عز وجل والعاق لوالديه ، وكفى بعقوقهما خروجا عن طاعته سبحانه وتعالى، وقد قضى أن يعبد ويطاع دون سواه وأن يحسن إلى الوالدين ببرهما .
والجبار العصيّ الشقيّ من الناس من عصا ربه بشرك أو بعقوق ، وقد زين له الشيطان ذلك ، واستخف به، وهو عند الله عظيم . ولقد ورد في الذكر الحكيم خبر الذي أنكر البعث كفرا وجحودا وأبواه يدعوانه إلى الإيمان به، وهما يستغيثان الله عز وجل فقال سبحانه وتعالى : (( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين )).وفي هذا النص القرآني ذكر لنوع من أنواع العقوق حيث كان الوالدان يأمران الابن العاق بالإيمان بالبعث وهو ينكره ويكابر لأنه كان جبّارا عصيّا شقيّا ، وعلى هذا النوع من العقوق تقاس كل أنواعه، ذلك أن كل من استخف بحكم أو قضاء أو أمر من الله تعالى ، كان في حكم هذا الذي أنكر البعث ، وما ساقه الله تعالى نموذجا إلا لتحذير أصحاب العقوق من الخسران والشقاوة الأبدية . ومن أشقى من مخروق ببر الوالدين أي جاهل به، وهو يستخف به جهلا وعلوا ومكابرة إذا ما ذكّر به ، ويبرر ذلك بالذرائع الواهية كذريعة الذي أنكر البعث ، ويحسب ذلك هيّنا وهو عند الله عظيم؟
وسوم: العدد 949