العلاقات الاجتماعية أهي حالة تَكَيُّف أم لها ضوابط ؟
يعيش الإنسان بين أهله وبين أرحامه وجيرانه ، ثم يعيش في دائرة المجتمع الكبيرة ، تبعا لعمله ومكانته الاجتماعية ، وما تفرضه طبيعة العلاقات بين الناس . وتلك العلاقات تتصف بالأداء الإيجابي ، وقبول الآخر خصوصا في دائرة المجتمع الكبيرة ، وفي هذه الدائرة تتجلى مكانة القيم التي تربى عليها المجتمع في سمو تلك العلاقة وإيجابيتها . لأن العلاقة داخل الأسرة وبين الأرحام تحكمها العديد من المزايا إذا ما صفت النفوس ، واطمأنت القلوب إلى بعضها ، فالعلاقات الأسرية غالبا ماتقيدها المودة والرحمة والإيثار ، بل تمسك بزمامها قيم أعلى وأسمى مما يتعامل به عامة الناس . فبر الوالدين ، ومسؤولية الوالدين تجاه أولادهما ، ثم صلة الأرحام ... فهذه لها شأن جليل ومكانة عالية في نفوس أصحابها .
وفي أصل المسألة أن العلاقات الإنسانية تحكمها : ( القيم الإنسانية ذاتها ) . فالإنسان بطبعه اجتماعي ، يرى في الإخاء والتعارف والتآلف والتواد والصدق والأمانة والتكافل والتعاون إلى آخر هذه الصفات الإيجابية الكريمة ، التي تُنشِئُ المجتمع الفاضل الذي يتحدث عنه علماء الاجتماع وغيرهم من المصلحين والمفكرين الذين يعيشون بين الناس . ولتنساب هذه الصفات الرقيقة الجميلة في نفوس الناس فلا ترى من حالات المذمة شيئا ، ولترى فيهم مجتمعا فاضلا ، خاليا من منكرات الأقوال والأعمال ، ومن رذائل التصرفات ، ومن قبائح المفاسد الاجتماعية .
والإنسان في البيئة التي يعيش فيها سيجد ــ بلا ريب ــ أناسا من أبناء هذا المجتمع الفاضل ، كما أنه سيجد أناسا من أبناء مجتمع آخر ، تنحَّى عن فطرته السليمة ، ونأى عن قيم دينه القويم الذي يحرِّمُ الغش والخداع والغيبة والنميمة ، ويحذر أشد الحذر من قتل النفس بغير الحق ، ومن الزنى والفجور ، ومن التعاطي بالربا والإدمان على المخدرات ... ومن كل هذه المهلكات للنفس في الدنيا بما ينالها من عقوبات ، وفي الآخرة بما تُجَازى به من عذاب . وهنا يُجبر الإنسان وهو يعيش في هذا المجتمع للتكيف مع مافيه من فساد . وتكيفه هذا يُبنَى على النصيحة ، ويستند على المعاملة الواعية التي يستنكر من خلالها هذه التصرفات المشينة ، ولكن بروح من الأخوة التي تتحدث عن خوفها على ـــ هؤلاء ـــ من العقوبات الدنيوية ، ثم عن عذاب الله يوم يقوم الأشهاد . ورغم شعور هذا الناصح الأمين بالرحمة عليهم والخوف على عاقبة أمورهم ، فإنه ينتابه الحزن على حال هؤلاء ، ولكنه يشعر أيضا بضرورة التفاعل معهم بشتى الطرق لينقذهم من براثن الشقاء المحدق بهم . ومشاهد هؤلاء بعد وقوعهم في قبضة المحاسبة ... مشاهد مؤلمة ، ونهاية محزنة ، وحالة مكلفة على الآباء والأمهات والأولاد وسائر الأرحام والأصدقاء . فكم من رجل ــ وعلى سبيل المثال ــ كان عاقلا طيب القلب حسن السيرة ، ولكن رفاق السوء جروه إلى بيئة المخدرات فتعاطاها ، وإلى فعل المنكرات فاقترفها ، وإذ به ملقى على أرصفة الشوارع بلا عقل ولا وعي ولا إحساس . ولك بعد هذا المنظر المؤلم المزري لهذا الشقي أن تعرف حالة زوجته وأولاده وأمه وأبيه ولإخوانه ... أجل رأيناه في حالته المزرية ، ورأينا ما أصاب أهله من كآبات وأحزان . هذا إذا سلم من سجن أو إعدام .
هذه أسباب عكَّرت الحياة الاجتماعية من جانب ، أضف إليها الأسباب الأخرى التي جلبت التنافر بين الجيران ، وبين الأصدقاء ، بل حتى بين الأسر والأرحام . إنها الفتنة ... فتنة الأخلاق الذميمة ، فتنة المصلحة الخاصة وحب الذات ، فعدم التسامح والعفو ، وعدم الأخذ بتعاليم الله سبحانه وتعالى : ( والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ) وغيرها مما ورد في آيات كريمات ، وما ورد في كنوز السُّنة النبوية من دعوة إلى التعامل الإنساني القائم على الإخاء و المودة ، تجعل التكيف مع مافي المجتمع من خلل لايُبنى على المداهنة ، بل يُبنى على حب الآخر والرحمة به وبمآله إن هو أدبر عن فعل الخير ، وأصر على امتطاء دابة الشر التي تؤذي كل مَن يمر من حولها ، أو يتعامل معها، البحث يطول ، ولنا من ديننا وعاداتنا الأصيلة المحكمة منهجا ساميا يمنح معتنقيه كل أواصر التلاقي على الخير وخدمة الآخر ، فهو وحي جاء لإعمار الأرض لا لإفساد مافيها من فطرة سليمة .
وسوم: العدد 950