سبحان الله! أيُقال لمثلي هذا؟

حاجة المسلم إلى التخلُّق بما يَعْرِف من أخلاق الإسلام، أشدُّ من حاجته إلى التعرف إلى ما يجهل منها، فإن المسلم العادي يكاد يعرف كل أخلاق الإسلام. يعرف أن الإسلام دعا إلى الإخلاص والتجرد والصدق والأمانة والعفاف والحياء والشجاعة... ونهى عن الكبر والحسد والبخل والنميمة والغيبة والرياء...

لكن المسلم قد يغفل أو يتقاصر عن تمثل هذه الأخلاق، فهو بحاجة إلى التذكير بها بين حين وآخر، لا سيما إذا مرّ بموقف أدى به فرحه أو حزنه أو غضبه، إلى الغفلة عن بعض هذه الأخلاق.

والمسلم الذي يكون في موضع القدوة من قومه يكون موقفه أكثر حساسية، فالضعفاء من الناس يلتمسون منه الهفوة والسَّقطة ليسوّغوا لأنفسهم ما يقارفون من سقوط، والصالحون منهم يتهيبون أن ينبّهوه إلى زلته، وهو كذلك قد يثور ويغضب إذا جاء من ينبّهه أو يعظه أو يحذّره.

أين المسلمون اليوم من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يدخل على أهل بيته فيقول لهم: إني عزمت على أن آمر الناس بكذا وكذا. وايم الله، من رأيته منكم خالف ذلك لأضاعفنّ له العقوبة، فإن الناس يقولون: أهل أمير المؤمنين يفعلون ويفعلون!.

وتعترض امرأة من عامة الناس على عمر وهو يخطُب في مهور النساء، فلا يجد حرجاً أن يقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر.

ويقول له رجل مرّة: لا سمعَ لك علينا ولا طاعة، وذلك لما ظن الرجل أن عمر خصّ نفسه بثوب أطول مما أعطى منه سائر الرعية... فما عاقبه عمر، ولا انتهزها فرصة لتسفيه الرجل، بل اكتفى ببيان براءته، وترك للرجل وللناس من حوله أن يعلموا الحقيقة بأنفسهم.

ولا عجب أن يكون خلق عمر على هذا النحو فهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه قط، إلا أن تُنتَهك حرمة الله فيغضب لها.

وكان الأعرابي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أعطِنا من مال الله، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مال أبيك، فيوسّع له النبي صلى الله عليه وسلم صدره ويعطيه..

والأحاديث النبوية الصحيحة في بيان حِلم النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وصبره، وفي تركه الانتصار لنفسه كثيرة كثيرة، وكل مسلم يحفظ حديثاً منها أو أكثر.

ويذكر ابن عجيبة – في شرحه لكتاب الحِكَم، لابن عطاء الله السكندري – أن أبا يزيد البسطامي دلّ رجلاً على أعمال يستعين بها على إصلاح نفسه، لكن الرجل وجد في هذه الأعمال غضاضة فقال: يا أبا يزيد، سبحان الله أيُقال لمثلي هذا؟ فرأى أبو يزيد أن هذا الرجل إنما سبّح نفسه بهذا الكلام، لأنه أراد أن ينزّه نفسه عن عمل يظن أنه لا يليق به، ولم يُردْ تنزيه الله تعالى.

نعم كثيراً ما يغضب أهل الفضل لأنفسهم. وقد يخرجون عن حدود اللباقة والاتزان وهم ينتصرون لذواتهم، وبذلك تسقط هيبتهم في أعين الناس، ويُعطون من أنفسهم شهادة زور على أخلاق الإسلام... ومع ذلك لا ينقصهم أن يتذرعوا لغضبهم بأن هذا الذي نصحهم، أو نبههم إلى أمر، أو خالفهم في رأي... لم يتّبع الأسلوب الحكيم في خِطابهم، ولم يراعِ مقاماتهم!.

وما دامت المسألة علاقةً بين ناصح ومنصوح، أو آمرٍ ومأمور، أو بين رجلين يختلفان في وجهة نظر... فالإنصاف يقتضي أن نذكُر طرفي العلاقة. فالناصح أو الآمر أو المحاور... عليه أن يلتزم خُلق الإسلام في خطابه، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يتحرى الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يراعي أدب الخطاب مع أهل الفضل... إلى آخر ما يمكن أن نصوغ من عبارات يقتضيها الأدب واللباقة. ولا ينبغي له أن يتجاوز ذلك، سواء استجاب الطرف الآخر أو لم يستجب. وسواء أكان جوابه حسناً أم غير حسن. وليس في تصرّف خاطئ من أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أحد أصحابه الكرام ذريعة لارتكاب خطأ مماثل.

والطرف الآخر (المنصوح أو المأمور أو المحاور) عليه أن يوطّن نفسه على قبول الحق والنصح، وأن يُنصف صاحب الرأي المخالف، وألا يتعلل بفوات الحكمة والسداد في أسلوب صاحبه... وله أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، تتسع صدورُهم لجهالة الجاهلين، وتقصير المقصّرين.

وكما لا ينبغي لمن جانَبَ أسلوب الحكمة في النصح أن يقتدي بالأعراب الجفاة، لا ينبغي لمن أُسديتْ إليه النصيحة، أو وُوجه بالرأي الذي لا يرتاح إليه، أن يشترط في الناصح أو المحاور أن يكون كالحسن والحسين وهما يعلّمان الوضوء من يجهله.

إن المسلم لا يعدو أن يكون في موقف ناصحاً وموجهاً ومحاوراً... وأن يكون في موقف منصوحاً أو طرفاً آخر في حوار مع المخالف... وعليه أن يوطّن نفسه على الإنصاف والموضوعية والتواضع، وعليه في الحالين أن يراقب الله تعالى فيما يتصرّف وأن يسدّ منافذ الشيطان إلى قلبه. فقد يلبّس الشيطان على الإنسان فيحسب الغلظة والإيذاء صراحة وجهراً بالحق، أو يحسب انتصاره لذاته غضباً لله، أو يرى في أسلوب الآخرين قصوراً أو جفاء، وليس فيه من ذلك شيء، إنما الذي جعله يرى ذلك غرورُه وغلوّ نظرته إلى نفسه وإلى عظيم مقامه!.

نسأل الله أن يرينا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، ويحببنا فيه... وأن يجنبنا الزلل والشطط.

وسوم: العدد 952