دلالة دولة الحق والقانون
شعار " دولة الحق والقانون" تدّعيه لنفسها جميع الدول على اختلاف أنظمتها . وهذا الشعار يتضمن ثنائية بين طرفيها علاقة اقتضاء ، ذلك أن الحق وهو ما يجب أن يتمتع به كل فرد أو جماعة سواء كان ذلك ماديا أو معنويا يقتضي بالضرورة وجود قانون يشرّع لضمانه وصيانته .
ومعلوم أن الدولة التي تصون فيها القوانين حقوق الأفراد والجماعات مادية كانت أم معنوية هي الدولة المصنفة ضمن ما يسمى بالدول الديمقراطية التي تحكم فيها الشعوب نفسها بنفسها بشكل حقيقي لا بشكل صوري ، وتكون دولة مؤسسات تشريعية، وقضائية ،وتنفيذية مفصولة سلطها عن بعضها البعض إلا أنها تتقاسم المهام فيما بينها لكن باستقلالية ، وباحترام صارم لاختصاصاتها ،فيكون التشريع مهمة المؤسسة التشريعية ، والقضاء مهمة المؤسسة القضائية ، والتنفيذ مهمة المؤسسة التنفيذية .
ودون الخوض في كل الحقوق المادية والمعنوية الواجبة للأفراد والجماعات في الدول ، نكتفي كمثال لا يراد به الحصر بالحديث عن حق التجمع من أجل التظاهر، وهو ما تدعي كل الدول نظريا أنه حق مكفول ومضمون لشعوبها بموجب قانون إلا أن الأمر قد يكون خلاف ذلك عمليا حيث يصادر هذا الحق في الكثير منها بذرائع أو بمبررات أشهرها ما يسمى بالحفاظ على الأمن العام والاستقرار ، وهو مبرر معقول لا يتناطح في معقوليته كبشان كما يقال إلا أنه قد يستعمل للتمويه على أسباب أخرى غير معلنة لكنها لا تخفى على الشعوب الممنوعة من التجمهر والتظاهر لإسماع صوتها .
ودون الإشارة إلى دولة بعينها ، نسجل تلاعب بعضها بحق تجمع شعوبها والتظاهر للمطالبة بحقوق أخرى تكون إما مهملة أو مهضومة أو منعدمة ... والمعروف أن تلك الدول تشترط لتمكين شعوبها من حق التجمع والتظاهر حصولها على ترخيص مسبق ، وهو ما لا تمكّن منه في الغالب ، فتضطر إلى التجمع والتظاهر دون ترخيص بسبب حرمانها من حقها في الحصول عليه ، ويكون حينئذ رد فعل الدول هو ممارسة ما يسمى عندها بحقها في حماية الأمن العام والاستقرار واحترام القانون ، وهي تعتبر كل تجمع من أجل التظاهر غير مرخص عبارة عن إخلال بالأمن العام والاستقرار مع إصرارها على الترخيص له ، ولذلك تعطي نفسها حق التدخل الذي يكون في الغالب ممارسة للعنف بكل أشكاله ووسائله وأساليبه من اعتداءات جسدية ، واعتقالات ، ومحاكمات، وغرامات ... وهلم جرا .
ومعلوم أن امتناع الدول عن تسليم ترخيص التجمع والتظاهر لشعوبها ، يجعل شعار " دولة الحق والقانون " شعارا فارغا من دلالته التي تعني احترام مبدأ هام من مبادىء الديمقراطية الحقة ، وهو البرهان والدليل على مصداقيتها .
وكل دولة تدعي أنها دولة " حق وقانون " يلزمها أن تقدم الدليل على ذلك عمليا من خلال الترخيص مبدئيا لتجمهر شعبها وتظاهره دون عرقلة أو تلكؤ أو تسويف أو تبرير لمنعه من ذلك واعتبارها التجمهر والتظاهر يفضي بالضرورة إلى الفوضى والشغب ، علما بأن ذلك لا يحصل في الغالب إلا إذا حصل منعهما دون مبرر مقبول ومعقول يتجاهل احترام القانون .
ومعلوم أن التجمهر والتظاهر محكوم ضرورة بشرط السلم ، وكل إخلال بهذا الشرط يعطي الدول حق التدخل لمنعهما . والسلم المطلوب فيهما يشمل ما هو مادي بحيث لا يلحق أي ضرر بالممتلكات العامة أو الخاصة ، كما يشمل ما هو معنوي بحيث لا ترفع شعارات مناقضة للثوابت التي تحظى بالإجماع أو تكون مؤيدة لجهات معادية أو فيها إساءة مهما كانت ،علما بأن كل تجمهر للتظاهر لا يخرج عن كونه إما تأييدا لأمر أو موقف أو قرار أو كونه اعتراضا عليه وانتقادا له . وإذا كان عنف الدول في مواجهة حق التجمهر من أجل التظاهر السلمي مرفوضا مبدئيا وقانونا ، فإن مقابلة الشعوب له بعنف مماثل مرفوض أيضا لأنه يكرس تذرع الدول بالإجهاز على ما هو مضمون في دول " الحق والقانون " .وقد تعمد بعض الدول إلى أساليب ماكرة حيث تدس عناصر مشبوهة بين المتجمهرين للتظاهر من أجل قدح شرارة العنف ، وتغيير التظاهر من سلمي إلى عنيف لتبرير منعه ومواجهته بالعنف . وقد تستغل بعض العناصر التي تكون على خلاف مع الدول التظاهر، فتخترق المتظاهرين سلميا وتحرض على العنف لتحقيق مصالح أو مكاسب ، وتكون إثارة الشغب هي وسيلتها إلى ذلك مع كون حضورها في التظاهر لا يمت بصلة من قريب أو من بعيد إلى أهدافه وإنما تتعمد ركوبه واستغلاله لأغراضها مبيتة ، وفي هذه الحالة يعتبر التنظيم المحكم للتظاهر مع اليقظة اللازمة وسيلة فعالة لقطع كل طريق على كل انحراف محتمل بالتظاهر عن أهدافه ومقاصده .
ولا تكتمل الدلالة الحقيقية لدولة " الحق والقانون " إلا إذا حصل اتفاق وتوافق بين الدول وشعوبها ، ولا يمكن أن يحصل ذلك في ظل الأنظمة الشمولية بل لا بد من أن تكون الأنظمة ديمقراطية بالمنعى الصحيح للديمقراطية ، وليس بالمعنى الصوري الذي يموه به على الشمولية والاستبداد .
ونختم بالقول إن دولة " الحق والقانون " فعل و ممارسة وإجراء ، وليست مجرد قول وادعاء ، وصدق من قال : " من يدّعي بما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان".
وسوم: العدد 953