يشقى الأناني بأنانيته وهو يتوهم السعادة فيها بينما يسعد ناكر الذات بنكران ذاته

من التصنيفات التي يصنف بها البشر أن بعضهم أنانيون عبيد أنانيتهم ، بينما يكون البعض الآخر ناكري ذواتهم متحررين من الأنانية . وما يميز الأنانيين أنهم يغلبون مصالحهم الشخصية على مصالح الغير  ، ولا تعنيهم مصالح الغير إلا بقدر ما تخدم  مصالحهم ، وهم  على الدوام يحملون همّ تقديم مصالحهم على مصالح الغير ، ويكابدون ويعانون معاناة كبيرة ومريرة  بسبب ذلك  ، ويعيشون عذابا وقلقا  دائمين  ما لم تسبق مصالحهم مصالح غيرهم ، وعندما يجعلون مصالحهم فوق مصالح الغير يتوهمون الشعور بارتياح وسعادة  لكنها  سعادة وهمية لأنها مجرد شعور بالخلاص من معاناتهم  التي كانوا يعانون منها قبل أن  يحققوا  هدف تقديم مصالحهم على مصالح الغير ، بينما  ناكرو الذوات يقدمون مصالح الغير على  مصالحهم عن طيب خاطر منهم ، وهم يجدون في ذلك سعادة حقيقية حينما يرون الغير بما في ذلك الأناني  يسعد بتقديم مصالحه على مصالحهم مع أنهم قد يكونون في أمس الحاجة إلى تقديم مصالحهم بسبب ضرورة أو ظرف قاهر ، وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، وأنعم به من وصف محمود .

 والأنانيون يشبهون نوع الزجاج الذي يكون شفافا من وجه لكنه من وجه آخر يكون عكس ذلك ، تماما كالزجاج المستعمل اليوم عندنا  في نوافذ المنازل المطلة على الخارج حيث يرى من يكون بالداخل من في الخارج دون أن يستطيع هذا الأخير رؤيته ، وهو زجاج صارعندنا ممنوعا في السيارات لأنه يحجب مراقبة المراقبين ما بداخلها ، وهذا دليل على أن سلوك الأنانية مستقبح مشين بل هو معرة ، بينما ناكرو الذوات كالزجاج الشفاف من وجهين .   

والأنانية مرض مزمن لا علاج له ، وهو أكثر من ذلك مرض معد  كالأوبة السريعة الانتشار بين الناس ، ذلك أنه لا يكاد يظهر عند أحدهم حتى تظهر أعراضه عند الكثيرين ممن تجمع بينهم ظروف . ومع انعدام علاج داء الأنانية إلا من رحم الله عز وجل ، فإنه لا ينفع معه ما ينفع مع الأوبة القاتلة  من أنواع التلقيح التي يراد بها تقوية المناعة ولو تعددت جرعاتها .

ولو شئنا بسط القول في تصرفات  ومواقف المصابين بداء الأنانية المزمنة  لسوّدنا في ذلك الصفحات ، إلا أن بعض الأمثلة من واقعنا المعيش كافية شافية ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نوعا من الأنانية الطاغية في كل المرافق التي تقتضي أن يقف الناس منتظرين أدوارهم في طوابير لقضاء مآربهم حيث يرتفع مؤشر الأنانية لديهم ، فتصدر عن بعضهم تصرفات منكرة قد تكرسها تصرفات العاملين بتلك المرافق حيث يضربون عرض الحائط مبدأ أحقية السابق على اللاحق من المصطفين في طوابير الانتظار ، ولهذا نرى الأنانيين الذين يقدّمون على غيرهم دون وجه حق ينصرفون مبتهجين شاكرين من قدمهم  أمام أنظار تزدريهم وتزدري من كرس أنانيتهم المقيتة .

 ومن الأمثلة أيضا ألا يخجل الأنانيون من التقدم  على غيرهم في حركة المرور سواء كانوا راجلين أم راكبين أو التقدم على من يشاركهم نفس المراكب سواء  الطائرة منها أو العائمة أو السائرة حيث يقع الزحام عند بوابتها في المطارات والموانىء والمحطات الشيء المثير للسخرية والشفقة  والأسى والأسف في نفس الوقت .

و من الأمثلة أيضا وهي أقبح أنواع الأنانية ما يحصل بسببها من سلوك مشين  في أماكن العبادة حيث تدفع الأنانية بأصحابها إلى الازدحام عند بوابات المساجد والمصليات أثناء خروجهم  بعد الصلوات أو في البقاع المقدسة في موسم الحج  أثناء أداء المناسك . وأما درجة حمى الأنانية عند بوابات الجامعات والمؤسسات التربوية والأسواق ، فحدث ولا حرج .  

ومن الأمثلة أيضا الأنانية المقترنة بالحسد ، والكيد ،والمكر، والوشاية الكاذبة والوقيعة والدسيسة ... بين من تجمع بينهم مهام أو وظائف أو أعمال أو حرف ... ، وهذه حدث عنها أيضا ولا حرج .

ومن الأمثلة كذلك الأنانية المقيتة  التي تصيب المعارف والجيران والأصدقاء والخلان ، وأشدها مقتا ما يصيب الأهل والأقارب حيث من المفروض ألا تجد الأنانية بينهم موطىء قدم ، وأن يغلب عليهم نكران الذات بسبب ما بينهم من أواصر وروابط . ومن أسباب خراب البيوت إصابة داء الأنانية بعض أفرادها ، وانتشاره بينهم ، فتصير حياتهم  كأنهم غرباء وهم في حيز واحد يجمع فيما بينهم ، وهم يشقون بذلك عوض أن ينعموا بنعمة نكران الذات عن محبة ، وصدق الشاعر الجواهري إذ يقول في وصف آفة الأنانية  :

وسوم: العدد 954