الكوميديا المقلوبة!
مجموعة من الممثلين بلا مسرح، يقفون في علب صغيرة ويتكلمون، بعضهم يفضّل أن يكون وحيداً، آخرون يؤثرون الإجابة على أسئلة المذيع، لكن وعلى رغم جدية ملامحهم ونبرات أصواتهم التراجيدية، فإنهم يشاركون في تقديم عروض تشبه ما اصطلح على تسميته «الكوميديا الواقفة» (Stand-up comedy).
مجموعة من السياسيين تحولت إلى ما يشبه فناني العرض، يملأون فراغ السياسة بسياسة الفراغ، معتقدين أن لعبتهم الجديدة سوف تنطلي على جمهور يتجرع البؤس اليومي.
يحاول المؤدي الإيحاء بالجدية، وبأنه يملك حلولاً لقضايا خطيرة تمس حياة الناس اليومية، لكنه يجد نفسه من دون أن يدري متورطاً في تقديم عرض كوميدي صنع في لبنان. وهو نوع من الكوميديا لن نجده إلا في بيروت. ولا عجب، فلبنان منذ نيسان- إبريل 1975، أي منذ بداية حربه الأهلية التي لا نهاية لها، صك كلمة جديدة، أخذت اقتراح سعيد عقل لبننة العالم إلى أبعاد لم يحلم بها شاعر «رندلى» ومخترع «الأبجدية اللبنانية». وكان ميخائيل غورباتشوف، وهو آخر رئيس للاتحاد السوفياتي قبيل تفككه، قد حذّر من «اللبننة». ومع غورباتشوف تحولت «اللبننة» إلى كلمة- مفهوم دخلت في القواميس بكل اللغات.
إضافة إلى مفهومي «الحرب التي لا بداية لها ولا نهاية» و»اللبننة» أضاف أمراء الحرب وزعماء المافيا اللبنانيون مفهوماً جديداً على الفن، اسمه «الكوميديا المقلوبة». جوهر اللعبة يقوم على قلب الأدوار. ففي الكوميديا الواقفة يتماهى المؤدي أو الممثل مع الجمهور، وينطق باسمه، موجهاً سهام سخريته وانتقاداته ونكاته إلى ظواهر اجتماعية مختلفة، وإلى الحكام، وقادة السلطات الاقتصادية والاجتماعية والدينية.
أما في لبنان، فإن زعماء المافيا وأمراء الحرب والمصارف تحولوا إلى مؤدين في عروض كوميدية، يستخف فيها المؤدي بجمهور المتفرجين ويسخر منه.
السخرية تفترض الذكاء وسرعة البديهة والقدرة على التلاعب بالكلمات والمعاني، وهذا ما تعلمناه من الأدب الساخر في العالم، أما هؤلاء الممثلون اللبنانيون فهم يتميزون بثقل الدم والاستخفاف بعقول الناس، هذا الاستخفاف نابع من اقتناع أفراد هذه العصابة- الطغمة بأن الناس أغبياء.
الكوميديا المقلوبة تدور وسط واقع تراجيدي لبناني لم يشهد لبنان مثيلاً له إلا في مجاعة الحرب العالمية الأولى.
صحيح أن مأساة المجاعة لم تأخذ سوى حيز صغير من الثقافة اللبنانية المكتوبة، غير أن أحداً لم يجرؤ على تحويل تلك المعاناة الرهيبة إلى عرض كوميدي.
ماذا جرى بنا ولنا كي تتحول مآسينا إلى كوميديا مقلوبة مبتذلة، إلى درجة أنها عاجزة عن إثارة شفقتنا على هؤلاء الممثلات والممثلين الفاشلين؟
أحد أصدقائي كان يعتقد أن العصبيات الطائفية اللبنانية تمنع تحويل أي حدث مأساوي، مهما كان جليلاً، إلى تراجيديا.
وعلى الرغم من عدم موافقتي على هذا الرأي، غير أنني أجد نفسي عاجزاً عن تفسير كيف ولماذا نعيش اليوم حدثين كوميديين متتابعين يحملان جميع العناصر الضرورية لخلق مناخ يحمل بعداً تراجيدياً خاصاً ليس في حاجة إلى استعارة المسرحي وجدي معوض للتراجيديا الأوديبية، كي يروي من خلالها إحدى حكايات الحرب الأهلية اللبنانية.
هناك مشكلتان، الأولى اسمها القاضي طارق البيطار، والثانية اسمها الوزير جورج قرداحي. المقارنة بين المسألتين والرجلين لا تجوز، لكن في لبنان كل شيء جائز.
الحملة على البيطار التي أطلقها زعيم حزب الله اتخذت أشكالاً غرائبية، وثمة سيل من دعاوى كف يد القاضي الشجاع من جهة، وقرار بتعطيل جلسات مجلس الوزراء، طالما لم تقم الحكومة بطرد القاضي الذي يمسك بالقضية الأكثر خطورة في تاريخ لبنان، من جهة أخرى.
مشهد المتهمين: فنيانوس والمشنوق وعلي حسن خليل ودياب، مثير للضحك. مطلوبون للعدالة، اثنان منهما صدرت مذكرات توقيف بحقهما يحتميان بالميليشيات ويرفعان الدعاوى على القاضي. متهمون فارون يمتطون الشاشة الصغيرة ويحاضرون في القانون والعفة واستقلالية القضاء!
ميليشيات تواجه القضاء بقضائها المبرم، وكلام يمزج السفاهة بالفجور.
والمحصلة واضحة، فطرد البيطار سوف يعني انهيار ما تبقى من القضاء، وعدم القدرة على طرده سوف يعني انهيار الحكومة.
ماذا تختار أيها اللبناني؟
في قضية البيطار هناك مأساة كبرى اسمها الضحايا وعائلاتهم. لكن عندما تستمع إلى المتهمين والزعماء الذين يحمونهم، تشعر بأنك في عرض كوميدي يثير الغثيان.
بعد مقتل أكثر من مئتي ضحية وتدمير ثلث بيروت، وهجرة ربع سكان لبنان، لم يتغير شيء. فالحياة السياسة اللبنانية قائمة على استحمار الناس.
القاتل يطلب من الضحية أن تضحك على سخريته من آلامها.
سأقول لكم لماذا لا نملك خياراً سوى الضحك. الجواب اسمه الوزير جورج قرداحي، مقدم برامج الترفيه الذي انطلق في تلفزيون أم. بي. سي. السعودي وصار نجماً يحمل طموحات سياسية. فالوجاهة لا تكتمل من دون لقب صاحب السعادة أو المعالي. لقد استخدم ظهور قرداحي في برنامج تلفزيوني بثته قناة «الجزيرة» كذريعة لخلق أكبر أزمة دبلوماسية في لبنان.
هذه كوميديا، لا تقولوا لي إن الغضب السعودي تراجيدي، فبعد مقتل خاشقجي، وصلت التراجيديا إلى ذروتها المجانية؛ أي إلى نهايتها. لا توجد تراجيديا مجانية إلا في بلاد العرب، ولأن لبنان مرآة العرب، فقد نجح زعماؤه في تقمص أدوارهم الكوميدية فوق الجثث والأنين والمرض.
المشكلة أن زعماء لبنان يتصرفون بصفتهم طابات تتقاذفها أرجل اللاعبين.
هل رأيتم طابة تبكي أو تشعر بالذنب؟
معركة القرداحي لا علاقة لها بحرية الرأي، بل لا علاقة لها بأي شيء يمت إلى عالم الأفكار بصلة. إنها معركة الحديد على الحديد في صراع وحشي يدور بين الأصوليتين السعودية والإيرانية، وقد أجّر أمراؤنا لبنان كحلبة في هذا الصراع ويريدون تحويلنا إلى وقوده.
إنها مسخرة، لو كان شوشو حياً لحولها إلى مسرحية هزلية حقيقية، لكن شوشو مات، وبيروته التي غنى لها «آخ يا بلدنا» ماتت هي أيضاً.
وسوم: العدد 954