أزمةُ مؤتمراتٍ وزحمةُ ندواتٍ وتضاربُ أنشطةٍ وفعالياتٍ
يبدو الأمرُ سهلاً على منظمي المؤتمرات ومديري الندوات، والمشرفين على الأنشطة العامة والفعاليات المشتركة، إذ لا يتطلب التنظيم لعقد أي فعالية الكثير من الجهد أو الوقت، بل يكفي أن يكون لدى المنظم أو الداعي لها، جهاز كمبيوتر أو هاتف محمول، وبعض العناوين وهواتف بعض الشخصيات العامة، من المختصين والمهتمين، الذين يقبلون المشاركة في الأنشطة والفعاليات الافتراضية، التي باتت تعقد بكثرةٍ عبر برامج الحوار المستحدثة، كـــZoom, Clubhouse, googlerooms, وغيرها الكثير مما تجود به علينا التحديثات العلمية والتطورات التقنية، التي أغرقتنا بالعشرات من البرامج المميزة الصوت والصورة، والقادرة على استيعاب مئات المشاركين، وجمع شتاتهم على الرغم من انتشارهم وتعدد أماكن وجودهم، وإدارة حواراتهم العامة، والتحكم في إظهارهم وحجبهم، وتنظيم أوقاتهم وضبط مشاركاتهم، وغيرها من المميزات التي تجعل من هذه الوسائل الحديثة فرصةً للقاء، ووسيلةً للحوار، ومنصةً للتفاهم، ومنطقة حرة لإدارة الأعمال، وتنسيق المهام، وتوزيع الأدوار.
لا شك أننا سعداء جداً بهذه التقنيات الرائعة، التي تقرب المسافات، وتزيل الحدود، وتجمع الشتات، وتوحد الجهود، وتخلق مناخاتٍ واسعةٍ للحوار والنقاش وتبادل الآراء، وتقفز على الموافقات الأمنية والأذونات المشروطة المسبقة، وقوائم منع السفر وحظر الدخول، مع ما لهذه الوسائل من عوارض سلبية وأضرار جانبية، يصعب علينا التخلص منها أو تجنبها، فهي عرضة للتجسس والاختراق، والتسجيل وجمع المعلومات، وتحديد الأماكن وضبط العناوين، فضلاً عن معرفة اتجاهات الرأي ونوازع التفكير، وغير ذلك مما يلزم أجهزة المخابرات العالمية، التي لا تهمل أي معلومة، ولا تستخف بأي صورةٍ، وتحرص على جمع كل ما تستطيع من معلوماتٍ، قد يأتي وقتٌ لتوظيفها والاستفادة منها.
ولعلني شاركت في الكثير من المؤتمرات والندوات التي تعقد افتراضياً، وساهمت محاضراً ومتداخلاً ومستمعاً في العديد منها، وأجزم أنني استفدت على المستوى الشخصي من أكثرها، وآمل أن أكون قد أفدت بما قدمت وأعطيت، فغالباً ما أعد كلمتي وأتهيأ لها، وأبذل جهدي في تحسينها وتمامها، لتكون شاملة ووافية، وفيها ما يثري ويغني، وتكون عند حسن ظن المتلقين، كما خضت تجربة إدارة الندوات وتنظيمها افتراضياً، وبذا أكون قد اكتسبت خبرة المشاركة وخبرة الإدارة، وعرفت محاسنهما وأدركت عيوبهما.
مما لا شك فيه أن لهذه الطريقة الافتراضية في عقد الملتقيات، خاصةً في ظل انتشار وباء كورونا وإغلاق الحدود وتعذر السفر والانتقال، إيجابياتٌ كثيرة، ومميزاتٌ عديدة، وفوائد جمةٌ، فقد رسخت قدمها وثبتت وجودها، ووسعت انتشارها، وأصبحت هي الطريقة الوحيدة نسبياً لعقد مثل هذه الأنشطة، رغم أن هناك بعض العيوب التي تخفيها شاشة العرض ولا تظهرها للعامة والمشاركين، فضلاً عن الحضور الصوري والغياب الفعلي، إذ يبقي بعض المشاركين على حسابهم مفتوحاً، ويحافظون على إتاحة الإسم والصورة، ثم يغيبون عن المؤتمر، ولا يعودون إليه إلا عندما يحين دورهم في الكلام، علماً أنه يصعب تمييز الحضور الفعلي عن الصوري إلا بالصورة الحية المباشرة.
بالنظر إلى سهولة اللجوء إلى هذه الوسيلة وبساطة استخدامها، وسرعة تنظيمها ويسر عقدها، فقد غص الفضاء العنكبوتي بمئات الملتقيات، التي يُدعى إليها أحياناً ذات الأشخاص، وتطرج ذات المواضيع أو عناوين متقاربة ومتشابهة، وربما في نفس المواقيت والساعات، دون أن يكون هناك أدنى تنسيق بين منظميها حول مواضيعها وعناوينها، وأوقاتها والمشاركين فيها، الأمر الذي من شأنه أن يحدث تناقضاً وتضارباً، وزحمةً واضطراباً، تفقد شهية البعض في المشاركة، وتضعف حضورهم، وتضيع أوقاتهم، سواء في الانتظار الصامت الطويل، أو خلال الإعداد والتجهيز للانطلاق الذي يشوبه دوماً خللٌ وأعطالٌ في الصوت أو الصورة، أو في كليهما معاً، ربما بسبب نقص الخبرة أو انقطاع خطوط الانترنت وتعطل الخدمة وضعفها.
ربما أكثر الذين يعانون من فوضى الندوات وكثرة المؤتمرات، وغياب التنسيق وضغط المطلوب، هم المشاركون الفعليون، والمتحدثون الرئيسيون، الذي يعدون الكلمات ويتجهزون للعطاء، وقد يستغرق ذلك منهم أوقاتاً غير قليلة، ينقطعون فيها عن أسرهم والتزاماتهم، ويهملون أعمالهم ويقصرون في واجباتهم، وينشغلون بالإعداد والتحضير، وما إن تنتهي مشاركتهم هنا حتى تبدأ مشاركتهم هناك، في استنزافٍ مستمرٍ وعطاءٍ دائم، يُسَرِّي عنهم أحياناً أهمية الموضوع، وجدية المتلقين، وكثرة عدد المشاركين.
لكن الملاحظ دائماً أن الحضور السهل لا يعني الجدية في المشاركة، وسهولة الالتحاق لا يعني فعالية المساهمة، إذ ينذر الإصغاء ويقل التركيز، وتبح أصوات المتحدثين الذين لا يجدون من يسمعهم أو يصغي إليهم، أو يناقش مادتهم، فيؤيدهم أو يعارضهم، أو يضيف عليهم وينتقدهم.
وحتى يبقى الجميع يحترم هذه الندوات والمؤتمرات، ويستجيب إلى الدعوات ويلبيها، ويقدر الجهات المشرفة عليها والمنظمة لها، وحتى تكون بديلاً مرضياً وملجأ نافعاً، لا بد من التركيز فيها والتقليل منها، وحسن اختيار عناوينها ومواضيعها، فلا نكثر منها فنملها، ولا نستخف بها فنعافها، فقد تتعدد الدعوات من جهاتٍ كثيرة، قد لا يكون بينها تنسيقٌ أو تشاورٌ، فنسكت عنهم وننصحهم، لكن أن تظن جهةٌ ما أنها وحدها التي تعمل، ووحدها التي تعرف وتتقن، وغيرها لا يعمل ولا يعرف، فتغرقنا بندواتها، وتهلكنا بمؤتمراتنا، فتفسد من حيث أرادت الإحسان، وتضر من حيث أرادت المنفعة.
لا أدعو إلى هجرة هذه الوسائل ولا إلى عدم الاستفادة منها ورفض اللجوء إليها، فهي كما ذكرت آنفاً أنها المتنفس الأخير والتعويض الممكن، وهي البديل الفاعل والوسيلة الأفضل في ظل تعذر المشاركة الحضورية في ذات المكان والزمان، خاصةً في ظل استمرار أجواء وباء كورونا، ولكننني أدعو إلى الجدية في التعامل معها والاستفادة منها، وإلى التنسيق مع المهتمين بها والمتشابهين في المواضيع التي يطرحونها.
وسوم: العدد 954