الطريق إلى العزّة
[من مقال منشور في مجلّة البيان، العدد 221 – المحرّم 1427ه. للكاتب: إبراهيم الدحيم]
تشتدُّ الهزيمة ويعظم الخطب حين تُهزم الأمة من داخلها، حين تهتز ثقة الأمة بدينها وعقيدتها ومقدراتها. إن الأزمة الحقيقية لأمتنا الإسلامية هي انعدام الوعي بذواتنا، أزمة فقدان الثقة بقدراتنا على الفعل، وأسوأ ما يمكن أن يصيب أمة هو فقدان الثقة بنفسها وبقدرتها على الفعل والمشاركة الإيجابية في صنع الأحداث وتجاوز المحن والأزمات. وقد تساءل "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة الهند": كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟! وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لا نراها مختلفة عن جمجمة الإنجليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم، والضعف والاستكانة في آخرين.
إن أمـة تُشـعِر نفسـها بالضـعف فهـي ضعـيفة، وستظل ضـعيـفة مـا دام هـذا الشــعور لا يفـارقـها. لقـد بـُلي كثـير من المسلمين اليوم بالهزيمة النفسية، التي كان من ثمارها العـيش مع المجتـمعـات الأخـرى بنفـسـية المغـلـوب، فحملها ذلك أن انقادت وراء هذه المجتمعات وسلمت لها خطامها وأقرت لها بالتبعية والولاء.
لقد نكبت الأمة وذلّت، وزلّت، وضلّت، يوم وجهت وجهها نحو الغرب الكافر، فأصبحت تقتات من فتاته، وتتمسح بأعتابه، وتسير في ركابه. زيَّن لها ذلك أصحاب الفكر المغلوب، الذين ما فتئوا يصيحون بالأمة أن تسلم قيادها للغرب، وأن تأخذ كل ما عنده من عادات وثقافات، حتى خرج جيل بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بعيد في ثقافته، وشخصيته، وسلوكه، ونمط حياته.
لقد كان من نتاج هذا التغريب أيضاً: الجهل بالتاريخ الإسلامي وأمجاده وأبطاله، وكان من نتاجه أيضاً: السعي المحموم خلف (الموضات) والتقليعات الغربية، حتى أصبح ما يُفصَّل هناك في الصباح يُلبس هنا في المساء، وتسربت إلى البلاد الإسلامية عادات ليست منها بباب. ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الكلاب في إحدى الدول العربية أكثر من مليون كلب!! إنها ليست كلاب حرث أو حراسة أو صيد، إنها كلاب مدللة أحدثها التقليد: "حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه"، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
إن الأمـة التي تعـيش على فُتات الغير، وتقتات من موائده، لا يمكن أن تصنع نصراً، أو تبني مِصراً، بل ستظل أمة ضعيفة هزيلة تابعة لا متبوعة.
لما ذلّت أمتنا غابت العزيمة من خطابها، وأصبحت قراءتها للنصوص قراءة تناسب ضغط الواقع، لا مقاصد الشريعة.
وحـين نريـد لأمـتـنا أن ترقى، ولمكانـتها أن تـبقـى، فلا بد من بعـث روح العـزة والقـوة فيها، وأن يربّـى أفرادهـا على ذلك، ولعـل ممـا يبعـث على العزة أمـور أذكـر منـها ما يلي:
1 ـ تحقيق التوحيد وتنقية الاعتقاد:
لقد جعل الله العزة ملازمة للإيمان: (ولِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِين). [المنافقون: 8]، فمتى استقر الإيمان ورسخ، فالعزة معه مستقرة راسخة حتى في أحرج اللحظات. دخل الإيمان قلوب السحرة فصرخوا في وجه فرعون باستعلاء: (لن نؤثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقضِي هَذِهِ الـحَيَاةَ الدنيَا).. ألا ما أروع الخطاب يوم يخرج بلـغة الإيمـان! إنـه الإيمـان الذي جـعل من بلال الحبشي قوة يتحـدى "سـيّده" أمـية بن خـلف ويحارب أبا جهل بن هشام.. الإيمان الذي جعل القلة تنتصر على الكثرة، والأميين يغلبون المتحضرين، ودفع العرب البداة، ويقينهم في قلوبهم، يقولـون لملـوك فـارس وأبـاطـرة الروم: نحن قوم بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
وصدق (توينبي) وهو كذوب، حيث يقول: "لقد ظللنا نُخرج المسلم التركي حتى يتخلى عن إسلامه ويقلدنا، فلما فعل ذلك احتقرناه، لأنه لم يعد عنده ما يعطيه".
أمــا حـين يرجـع المؤمن إلـى دينـه ويتـمسـك بثـوابتـه فــإنـه سـيجد فـي كتـاب ربـه مـا يغـنيه، وفـي سنـة نبيه صلى الله عليه وسلم مـا يرويـه، وفـي عقـيدته ما يكفـيه، ولـن يكون بحاجة إلى مخلفات الحضارة الغربية. ورحم الله محمد إقبال حـين قال: إن بريق المدنية الغربية لم يُغشِ بصري، لأني اكتحلت بإثمد المدينة النبوية.
2 ـ تحقيق تقوى الله تعالى بلزوم الطاعة واجتناب المعصية:
قــال ابـن القــيم وهــو يعدد آثـار الذنـوب والمعـاصـي: إن المعصية تورث الذل ولا بد، فإن العز كل العز في طاعة الله. قال الله تعالى: (مَـن كَانَ يُرِيـدُ العِــزَّةَ فَلِلَّهِ العِـزَّةُ جَمِيعاً). [فـاطـــر: 10]. أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.
إن المعصية ذل وعار وسواد في الوجه، وظلمة في القلب، وبغضة في قلوب الخلق. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم". أخرجه أبو داود.
وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
3 ـ التعالي على مطامع الدنيا وشهواتها ولذائذها:
إن المسلم حين يتعامل مع الدنيا على حذر، ويأخذها على أنها متاع زائل وبُلْغة مسافر، فإنه لن يقع عبداً لها، ولن يبيع عزته ومكانته فداءً لها، بل سيتخلى عن دنياه أسهل ما يكون حين تتعارض مع مبادئه وقيمه وثوابته، وحين يساوَم على شيء من دينه.
4 ـ النظر إلى الكافر نظرة احتقار مشوبة برحمة:
هكذا ينبغي أن يكون نظرنا للكافر، لا أن ننظر له نظرة اعتزاز وإكبار، حتى ولو بلغ من الحضارة كل مبلغ، فقد صغَّر الله شـأنهم، وحقَّـر أمـرهـم، فلا يصـح أن نرفـع منـهم، قـال الله تعالى: (إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الذينَ كفروا فَهُم لا يُؤمِنون). [الأنفال: 55].
إن الذي يعلم حقيقة ما عليه الغرب الكافر اليوم، يرى أنه ليس حقيقاً بالإكبار، بل يرى أنه مجتمع متساقط متهالك، ليس لديـه مـن مقـومات البـقاء شـيء. يقول الرئيس الأمريكي السابق (جـون كنيدي): إن الشـباب الأمريكي مائع منحل، غـارق في الـشهوات، وإنـه من بين سبعة شبان يتقدمون للتجـنيد يوجـد ستـة غيــر صــالحين، كل ذلك بسـبب انهماكهم في الشهوات. وتذكر الإحصاءات أرقاماً مرعبة عن أنواع وعدد الجرائم في بلاد الغرب.
5 ـ التعلق بالآخرة وطلب ثوابها:
إن الذي يتعلق بالآخرة تهون الدنيا في عينه، وتهون عليه نفسه فيقدمها رخيصة لله.
"نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". ففعلت هذه الكلمات في نفوس أهل الآخرة فعلها، فقام عمير بن الحُمَام وقال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: نعم. قال: بَخٍ بَخٍ! فأخرج تمراتٍ من قَرنِهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل". رواه مسلم وأحمد.
6 ـ التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في النفوس:
لا بد من التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في نفوس الأطفال من صغرهم، وأن يحدَّثوا بأمجادهم وتاريخ أسلافهم، قُل له: أنت ابن الإسلام، أنت حفيد أبي بكر، ووارث عمر، وصاحب عثمان، وخليفة علي، حدِّثه عن نور الدين وصلاحه، أعد عليه ذكرى بدر، وأخبار القادسية واليرموك وأحداث حطين ونهاوند وبلاط الشهداء.
عـوِّده أن يرفع رأسه دائماً إلى السماء، وأن لا يطأطئ إلى الأرض. روى العسكري: أن رجلاً مرّ على عمر رضي الله عنه وقد تخشع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال عمر: ألستَ مسلماً؟ قال: بلى! قال: فارفع رأسك، وامدد عنقك، فإن الإسلام عزيز منيع. ورأت الشفاء بنت عبد الله بعض الفتيان يمشون متماوتين فقالت: مَن هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء النسّاك. فقالت: لقد كان عمر إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذ ضرب أوجع، وكان هو الناسك حقاً.
إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه. وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يكون ذَنَباً لإنسان. وقد وصف الله تعالى أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم بأنهم: (أشدّاء على الكفّار، رحماء بينهم). فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها من الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم.. والعز والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسـنَّ مـن تعـاليم. وإليـها يشير عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: أحِبُّ الرجل إذا سِيمَ خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا... "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تُعطِه مالك! قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتِلْه! قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد! قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار". رواه مسلم.
نعم! فمن عزة المؤمن أن لا يكون مستباحاً لكل طامع، أو غرضاً لكل هاجم. بل عليه أن يستميت دون نفسه وعرضه، وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء، فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع... أمّا تهيّب الموت وتحمّل العار طلباً للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق، فإن الفرار لا يطيل أجَلاً، والإقدام لا ينقص عمراً. إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان.
وسوم: العدد 955