ملكات على عرش النكبة

في 10 آذار – مارس 1949، قام الجيش الإسرائيلي بقيادة إسحق رابين باحتلال أم الرشراش في عملية «عوفيدا»، أي الأمر الواقع، وأطلق الإسرائيليون على القرية الفلسطينية التي تقع على ساحل البحر الأحمر اسم إيلات.

في أم الرشراش (إيلات)، جرى أول أمس الاحتفال بانتخاب ملكة جمال الكون. انتخاب ملكات الجمال بما تحمله من تشيؤ للمرأة واحتفاء بالغباء، لا تعنينا، فهي طقس استعراضي سمته الأساسية استهلاكية وإعلانية، وأداته جسد المرأة المعروض على مشرحة ما يسمى بالجمال. غير أن هذه الاحتفالية اتخذت شكلاً مقززاً عبر اجتماع عاملين:

العامل الأول هو تلك الحفلة التنكرية التي تمثلت في قيام الملكات بالاستعراض أمام المصورين وهن يلبسن الثوب الفلاحي الفلسطيني، بعد أن قام الاسرائيليون بتقديمه بصفته ثوباً تقليدياً إسرائيلياً! وقد استكمل هذا «الهالوين» بعملية لف ورق العنب (الدوالي) التي تنازلت الملكات وقمن بإعدادها بأيديهن باعتبارها طبقاً بدوياً إسرائيلياً!

العامل الثاني هو مشاركة فتاتين عربيتين في هذه الحفلة، الأولى هي ملكة جمال البحرين: منار نديم دياني، والثانية هي ملكة جمال المغرب: كوثر بن حليمة. لا أدري لماذا لم تُنبِّه الملكتان زميلاتهن بأن الثوب ليس إسرائيلياً، وبأن ورق الدوالي هو طبق فلسطيني – شامي، لا علاقة لإسرائيل به. عذر الملكتين هو جهلهما الثقافي كي لا نقول إنهما متواطئتان مع الحفلة التنكرية التي بدأت بالتتبيع- التطبيعي الذي نسب إلى إبراهيم الخليل. وإبراهيم، الذي يمتلك مدينة جميلة في الضفة الغربية المحتلة، يعاني مع الخليل الأمرين من صلافة المستوطنين وبجاحتهم ووحشيتهم المفرطة.

المسألة لا تستحق التوقف عندها، فالأنظمة التي تنسق مع دولة الأبارتهايد الإسرائيلية، وابتلعت احتلال كل فلسطين وتشريد وقمع الفلسطينيين، لن تغصّ بورق الدوالي ولن تتأثر أمام انتهاك الثوب الفلسطيني.

نحن في زمن الانتهاك، فمبروك على الملكتين وعلى كل المستبدين العرب غرقهم في وحل المهانة والذلّ. فالذلّ هو أحد طباع المستبدين، فالذي امتهن إذلال شعبه لا يملك سوى الانحناء أمام إسرائيل وأمريكا من أجل ديمومة سلطته المتهالكة.

الاحتجاجات الواسعة على مشاركة الصبيتين العربيتين لم تثنهما عن المشاركة، رغم مقاطعة ملكتي جمال اليونان وإندونيسيا احتجاجاً على الاحتلال. وهذا دليل على قلة الحيلة والحياء، وهما يعبران ليس عن رغبات الصبيتين المغربية والبحرينية فقط، بل أيضاً عن قرار سياسي بالاحتفاء بإسرائيل بصفتها صديقة وحامية لزمن الأوغاد.

والمصادفة وحدها جعلت هذا الاحتفال يتقاطع مع التقرير المستفيض الذي نشره المؤرخ الإسرائيلي آدم راز في صحيفة هآرتس (9 كانون الأول- ديسمبر 2021)، والذي يكشف جزءاً من الوثائق التي حجبتها الرقابة الإسرائيلية عن جرائم الجيش الإسرائيلي ومجازره خلال حرب النكبة.

ليس نشر هذه المعلومات جديداً، فالفلسطينيات والفلسطينيون الذين عاشوا ويلاتها يعرفون أن جراح النكبة لا تندمل، لكن الجديد فيها هو أنها نوقشت على طاولة مجلس الوزراء الإسرائيلي، وأن من طوى صفحتها هو مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها في تلك المرحلة دايفيد بن غوريون.

جرائم وحشية ارتكبت خلال عمليتي يوآف وحيرام، ومذابح منسقة ومدروسة نفذت في الرينة والبرج والدوايمة والصفصاف وغيرها. قتل وانتشاء بالدم وصلا إلى إحدى ذراهما في قرية حولا في جنوبي لبنان.

سفاح حولا شموئيل لهيس أو لاحيس، ارتكب مجزرتين في يومين متتاليين، في اليوم الأول، 31 تشرين الأول 1948، أمر بإعدام 18 فلاحاً، وفي اليوم الذي يليه قام هو شخصياً بإعدام 15 ضحية.

حكاية هذا المجرم تستحق أن تروى، لا لأنها تتميز بوحشيتها، ففي الصفصاف حيث أجبر الناس على حفر قبرهم الجماعي بأيديهم، كانت الجريمة أكثر بشاعة، بل لأنها تثبت أن الادعاء الإسرائيلي «بطهارة السلاح» مجرد وهم، رغم محاكمة الرجل والحكم عليه بالسجن سبع سنوات.

القصة لا تنتهي عند هذا الحكم المخفف الذي أصدرته المحكمة بحجة أن شموئيل هو الوحيد الذي حوكم رغم أن المجازر كانت شاملة، ولم يحاسب أحد من مرتكبيها.

القصة اتخذت منحى آخر، فجرى تخفيض الحكم من سبع سنوات إلى سنة، ثم أصدر رئيس الدولة إسحق بن زفي عفواً عنه، وتم تعيينه رئيساً للوكالة اليهودية!

ومن موقعه كرئيس للوكالة اليهودية، أطلق هذا الرجل تقليد تظاهرة الأعلام في القدس، احتفالاً باحتلال القدس الشرقية عام 1967، وهو الاحتفال السنوي الذي صار عنواناً للعنصرية والهمجية والاستفزاز!

اقرأوا هذا التقرير، كي تعرفوا أن النكبة التي بدأت بالمجزرة مستمرة حتى اليوم بالاحتلال وجرائمه، وأن ما قاله بعض الوزراء الإسرائيليين في محاضر مجلس الوزراء في تلك المرحلة يؤشر إلى مستقبل إسرائيل، أي حاضرها اليوم.

أشار الوزير دايفيد راميز: «إن هذه الأفعال تخرجنا من صفوف الشعب اليهودي، ومن صفوف الكائنات البشرية»، مردخاي بندوف تساءل «عن أي نوع من اليهود سيبقى في البلاد بعد نهاية الحرب»، أما حاييم موشيه شابرا فقال «إن جميع الأسس الأخلاقية الإسرائيلية قد تم تقويضها».

لا علاقة للملكتين العربيتين بكل هذه الحكاية، ما حاجتهما إلى المعرفة، ولماذا وجع الرأس بالحقيقة.

الحقيقة موجعة، وإذا كنا على استعداد لمسايرتكم ونسيان العروبة وواجب العرب تجاه الفلسطينيين وتجاه أرض عربية محتلة، فهل المطلوب هو أن ننسى إنسانيتنا أيضاً؟

يبدو أن تساؤل مردخاي بندوف عن أي نوع من اليهود سيبقى في فلسطين كان ناقصاً، إذ علينا أن نضيف إلى تساؤله ونسأل: أي نوع من العرب هم هؤلاء الذي يرقصون على إيقاعات الموت الفلسطيني؟

ملكات النكبة في إيلات هن صدى لنكبة العرب المستبدين الذين استباحوا كراماتهم وقاموا بتدمير ما لم تستطع إسرائيل تدميره.

وسوم: العدد 959