قيمنـا الاجتماعية إلى أين ؟
أكرم المولى تبارك وتعالى شأن المُثُل الإنسانية العليا ، والمزايا التي ترفع من شأن الإنسان ، والتي تشمل معجم الأخلاق الفاضلة كالصدق والأمانة والمودة والإيثار ، واحترام الجار وتقدير مكانة الأرحام ، والتكافل الاجتماعي الذي يشمل كل عمل خيري يقدمه الإنسان لأخيه الإنسان ، وهذه القيم الأخلاقية لاتخفى على أحد في المجتمع ، ولكن الذي لايكاد يظهر على وجه المجتمع هو الأخذ بهذه الأخلاق ، وإشاعتها بين الناس ، ليسود الإخاء ، وتعم المحبة بين شرائح المجتمع المتنوعة ، فيعطف الغني على المحتاج ، ويُؤخَذُ على يد مَن أصابته جائحة خاصة به ، أو كانت الجائحة عام بين أبناء المجتمع في يوم من الأيام . ولقد كانت سيرةُ النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى لجميع الخلق ، فهو كما وصفه ربُّـه سبحانه وتعالى : (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ، وعَظَّم الله شأنه صلى الله عليه وسلم حيث خاطبه : ( وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظيم ) .
فالفرد إذا فقد هذه المزايا الجميلة ، والخصال الحسنة فقد بات منبوذا من قِبل مجتمعه ، ويُشار إلى فساده وسوء معاملته بالبَنان ، وما ينطبق على الفرد يُقال عن المجتمع إذا عــمَّ فيه الفساد ، ورحلت الأخلاق والآداب عن سيرة أبنائه وبناته ، فإنه يتعرض للضياع ويسير نحو الانحطاط، لأن المجتمع بلا أخلاق كالشجرة اليابسة بلا أرواقها الخضر ، ولا أزهارها النضرة ، ولم تجد لها ظلا يأنس فيه الإنسان . فلا بد للمجتمع من أن يبحث عن سبل استعادة القيم الإنسانية الاجتماعية لأنها روح حياة المجتمع وعنوان رقيه ، وهي حصنه الحصين . بل لابد من سقي بذور تلك المزايا بمياه المودة والتراحم والتآخي لتنمو وتكبر ، وتصبح أدواحا ظليلة تمنح البيئة التي يعيش فيها الناس الظل الظليل ، والثمر اليانع اللذيذ ، فيطمئن الناس لبعضهم ، وتشرق وجوههم بأنوار التصافي لا التجافي ، وبالكلمات النديَّة المهذبة ، وليس بالألفاظ النابية ، ولا التعابير التي تبعث الأضغان في القلوب وتشحن الأنفس بالعداوات . إنها الأخلاق التي تحفظ روابط المجتمع مكينة متينة ، فإذا ذهبت الأخلاق انفرط عقد المجتمع وصدق القائل :
( وإنما الأمم الأخلاق مابقيت ... فإن هـمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا )
إنَّ مجتمعاتنا لها رصيد كبير وغني من القيم العاليات ، والأخلاق الفاضلات ، ومن العادات السليمة الكريمة ... مايمنح أبناءه المكانة المرموقة ، والسعادة المنشودة ، وكلنا نذكر تلك القيم وهاتيك الأخلاق أيام عيدي الفطر والأضحى ، وما فيهما من دعوة جادة إلى معاني الإخاء والتواصل ، وكلنا نذكر مواقف أبناء مجتمعنا أيام الشدائد والمحن والكوارث الطبيعية بل حتى في ساحات المعارك ، فقد رأينا الجريح يُقدم له الماء ليسد رمقه في لحظات حياته الأخيرة ، فيبصر أخا له جريحا أيضا يشير إلى حامل قربة الماء يريد ماء ، فيأبى الأول أن يشرب ويشير إلى الساقي أنِ اسق ذاك الجريح ، ويتكرر هذا الإيثار بين عدد من الجرحى ، وحين رجع الساقي بمائه إلى الأول فإذا هو قد مات ، ثم يرجع إلى الآخر فإذاهو قد مات أيضا ... وهنا تنتهي أعلى فضائل الخُلُق الكريم ، وأبهى ما للإيثار من سمو ، إنها قِمَّة الأخلاق التي يتمتع بها أبناء أمتنا التي اختارها الله لتكون خير أمة أُخرجت للناس على ظهر المعمورة . عشرات الآيات القرآنية الكريمة ، ومثلها من الأحاديث النبوية الشريفة ، والآلاف من القصص الاجتماعية التي خلدها التاريخ ، ودوَّنتها السِّير الحميدة ... كلها تؤكد على مكانة قيمنا الاجتماعية وأخلاقنا المميزة بالصدق وصفاء السريرة ، وهي التي تجعل المجتمع آمنا ينعم بالازدهار والاستقرار وبالتطور الحثيث والصعود على مدارج الخيرية التي جعلها الله عــزَّ وجـلَّ لأمتنا الكريمة ، ولأبنائها الأبرار .
ولكيلا تتلاشى قيمنا الاجتماعية ، ورصيدنا الحافل الزاخر بالمكرمات علينا بالعودة إلى منابع ديننا ، وإلى واحات عاداتنا الفاضلة ، ونقف أمام فساد العصر بإيجابية ، ولا ننساق خلف بهارج الفساد بأي شكل من الأشكال ، ونشيع بيننا حب هذه المزايا ، ونكبح جماح كل التصرفات المشينة ، ونعمل على إحياء قيمة التربية الأسرية ، ونهيئ أسباب صلاح الأبناء ، فصلاحهم مسؤولية الوالدين بالدرجة الأولى لقربهم من أبنائهم . وكذلك الأخذ بإحياء هذه القيمة وتنميتها في كل مواقع وجود أبناء المجتمع . كما يجب ألا ننسى أهمية دور القدوة في البيت والمدرسة والمؤسسة والإدارة ، أينما كانت المدارس والمؤسسات والإدارات ، فالأسوة الحسنة مَعلَمٌ اجتماعي ، ورمز مميز لمَن حوله ولمن يعيشون معه ولمَن يسمعون عنه ، ولعل أمتنا تستعيد مكانتها الاجتماعية العالمية ، وليس ذلك على الله ببعيد .
وسوم: العدد 959