المصلحة الإسرائيلية في تأزيم الملف الإيراني
العامل الإسرائيلي هو مهم جداً في الأزمة المتواصلة لعقود بين واشنطن وطهران. ففي منطقة الشرق الأوسط تقف إسرائيل وحدها على ترسانة أسلحة نووية كبيرة، ترسانة لا يعير "الغرب" أي اهتمام لمخاطرها في المنطقة بينما يمنع (الغرب) امتلاك السلاح النووي من قبل أي دولة عربية أو إسلامية في المنطقة. ولا قيمة أصلاً للحجّة التي يقوم عليها هذا الموقف الغربي بأنّ إسرائيل هي دولة ديمقراطية حليفة يمكن الوثوق بها. فكثيرٌ من بلدان الشرق الأوسط يرتبط بعلاقات خاصة مع أوروبا والولايات المتحدة ولا يُسمح لهذه البلدان بامتلاك السلاح النووي. ولعلّ خير مثال على ذلك هو تركيا التي ترتبط بحلف الناتو، وفيها نظام علماني ديمقراطي، لكن يمنعها الغرب بالرغم من ذلك من دخول عضوية "النادي النووي"!.
العامل الإسرائيلي يضغط الآن لتحقيق مواجهة عسكرية مع إيران. ففي حال حدوث هذه المواجهة تستكمل إسرائيل ما حققته حتى الآن من "إنجازات" بعد 11 سبتمبر 2001 تحت شعار "الحرب على الإرهاب الإسلامي"، ثمّ في الحرب على العراق عام 2003، فإسرائيل تحصد دائماً نتيجة أي صراع يحدث بين "الغرب" و"الشرق" وبما يُعزّز دور إسرائيل بالنسبة للدول الغربية الكبرى وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، والحاجة الأمنية لها.
إنّ المواجهة العسكرية في حال حدوثها بين الولايات المتحدة وإيران ستؤدّي إلى تدمير كبير لدى الطرفين معاً، وستكون ساحاتها ممتدّة أيضاً إلى العديد من المدن العربية، وستطال كوارثها الثروات النفطية والمالية العربية، وستدفع نتائجها إلى مغادرة القوات الأميركية للمنطقة، وإلى حصر الاعتماد الأميركي من ثمّ على القوة العسكرية الإسرائيلية.
كذلك، فإنّ من شأن تصعيد الأزمة مع إيران والمواجهة العسكرية لها أن يزيد من الصراعات الداخلية في عدّة بلدان عربية، ممّا يُشعل حروباً أهلية عربية وإسلامية تفكّك أوطاناً وتدعم المشروع الإسرائيلي للمنطقة العامل على إقامة دويلات طائفية وعرقية تحكمها الأمبراطورية الإسرائيلية اليهودية.
أيضاً، في الحسابات الإسرائيلية أنّ إسرائيل (رغم المراهنة على الدعم العسكري والأمني الأميركي) ستتعرّض إلى ضربات عسكرية من إيران وحلفائها بالمنطقة لكن ستكون إسرائيل الأقل ضرراً عسكرياً واقتصادياً ومالياً، والأكثر فائدة سياسياً وإستراتيجياً، مع استمرار الكيان الإسرائيلي في تعزيز الاستيطان في الأراضي المحتلة وممارسة التهجير القصري للفلسطينيين من داخل إسرائيل ومن الضفة، وربما للضفة الشرقية من نهر الأردن حيث هو المشروع الإسرائيلي الآن للوطن الفلسطيني البديل.
إنّ الصراع الأميركي مع إيران استقطب في المرحلة السابقة الأطراف العربية بشكل حاد، وفي هذا الصراع حصلت استباحة لكلّ الأساليب بما فيها أسلوب التعبئة الطائفية والمذهبية، واستخدام وسائل الإعلام وتجييش الأقلام لصالح هذا الطرف أو ذاك.
بالمحصّلة، فإنَّ بعض الأطراف العربية، ولمصالح مختلفة، أصبحت أدوات للصراع بين واشنطن وطهران، وبلدانها مرشحة لتكون هي ساحات الحروب العسكرية في هذا الصراع! لكن هل "القضايا" الإقليمية المتصارَع عليها هي قضايا "أجنبية" لا تخصّ العرب ولا تعني شعوبهم وحكوماتهم؟!
فالقضية العراقية تعود جذورها إلى الحرب التي أعلنها النظام العراقي السابق على إيران بعد الثورة على نظام الشاه، وإلى نظرية "الاحتواء المزدوج" التي مارستها واشنطن في إدارات مختلفة، ودعم إدارة ريغان في وقتٍ واحد للحكم العراقي ولصفقات أسلحة مع إيران لاستنزاف الطرفين معاً. ثم جاءت تفاعلات غزو دولة الكويت عام 1990 وما سبّبه من وجود قوات أميركية وأطلسية كبيرة في المنطقة، ليمهد لاحتلال العراق عام 2003 والذي زاد كثيراً من حجم التنافس والصراع مع إيران.
والقضية الفلسطينية أوجدها الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركياً وأوروبياً منذ اغتصاب فلسطين وقيام دولة إسرائيل، ممّا أوجب وجود مقاومة فلسطينية لهذا الاحتلال في مختلف الظروف والمراحل التي مرت به القضية الفلسطينية.
وقضية الحرب في اليمن هي محصلة لمزيج من صراعات الداخل اليمني بعد انهيار السلطة المركزية وتدخلات إقليمية ودولية تستهدف موقع اليمن الإستراتيجي. وهناك من نظر إلى "عاصفة الحزم" أو "العاصفة" السعودية باعتبارها "الحل العربي" لأزمة اليمن بينما واقع حال يؤكد ان العمليات العسكرية جرى الاعلان عنها أولاً من واشنطن بدعم اميركي وبسعي لمشاركة تركيا وباكستان ثم وصول الامر إلى المراهنة على قوات سنغالية!! فأين الحل "العربي" وهل هناك اصلا اي توافق عربي على كيفية حل الازمات؟ وعن اي حكومات عربية او مرجعية عربية نتحدث؟!.
والقضية اللبنانية هي مرآة للأوضاع العربية وللصراع العربي/الإسرائيلي، وهي في جزء كبير منها حصيلة الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 ثمّ في العام 1982 وقبل أن يكون هناك أي "نفوذ" سياسي إيراني في لبنان.
حتى المسألة الإسلامية المذهبية فإنّها جزء من التاريخ الإسلامي قبل أن فرض إسماعيل الصفوي (مؤسس الدولة الصفوية في إيران) في القرن الخامس عشر ميلادي المدرسة الفقهية الشيعية كمذهب رسمي للدولة، وبعد حوالي تسعة قرون على اتبّاع إيران للمدرسة الفقهية السنية. وإسماعيل الصفوي الذي كان قائداً عسكرياً ونجح بالقوة العسكرية في توحيد الأراضي والقبائل الإيرانية وأصبح ملكاً عليها، اختار المذهب الشيعي لدولته من أجل ضمان عدم امتداد الدولة العثمانية إلى بلاد فارس، والتي كانت (أي الدولة العثمانية) في أوج صعودها وانتشارها آنذاك. فلا المذهب الجعفري (نسبة للإمام جعفر الصادق) أساسه أو مصدره إيراني، ولا اختلاف المدارس الفقهية الإسلامية "حالة أجنبية". ما هو "أجنبي" أو "مفتعَل"، هو الصراع السياسي باسم المذاهب أو باسم الدين، تماماً كما كانت الحروب "الصليبية" والتي حرص العرب والمسلمون على وصفها بحروب "الإفرنج" ولم يقبلوا بالتسمية الأوروبية لها بأنّها "حروب صليبية".
إنّ الولايات المتحدة، خاصة في ظل إدارة ترامب، هي المسؤولة عن تصعيد التوتر في أزمات المنطقة ومع إيران بسبب إنسحابها من الإتفاقية الدولية بشأن الملف النووي الإيراني، وبما قام به ترامب أيضاً من فرض عقوبات جديدة على إيران رغم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت تؤكّد على ما تقوله طهران عن سلمية برنامجها النووي، بينما لم يتحرك مجلس الأمن الدولي بشكل فاعل للتعامل مع تداعيات الخطر النووي الإسرائيلي أو لإيجاد حل عادل ل "المسألة الفلسطينية"!.
ويشهد العالم الآن إصراراً روسيّاً/صينيّاً على صياغة نظام دولي جديد يقوم على الشراكة لا على التبعيّة للولايات المتحدة، نظام تعدّدية الأقطاب الذي ينهي حقبة القطب الأميركي الأوحد. وكيفيّة معالجة الأزمة مع إيران، وأزمات المنطقة المتفرعة عنها، ستكون علامة فارقة على هذا التحوّل الدولي الحاصل.
ولقد أصبحت إيران هي القوة الإقليمية التي تتمحور عليها وحولها قضايا عديدة في المنطقة تشمل العراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين، إضافةً إلى مصير العلاقات مع دول الخليج العربي وتأثيراتها على أمن هذه الدول وعلى النفط والاقتصاد العالمي.
نعم، "المسألة الإيرانية" هي أمر مهمٌّ التوقف عنده الآن، خاصّةً في حضور أزمات عربية مشتعلة، وفي مصير الصراع العربي/الإسرائيلي وما قد يترتّب على تجاهله من نتائج سلبية كبيرة على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط كلّها...
نعم، الإدارات الأميركية، ورغم الضغوط الإسرائيلية، لم ترتكب حماقة كالتي ارتكبتها إدارة بوش الأبن في حربها على العراق، بأن تتورط في مواجهة عسكرية كبيرة مفتوحة مع إيران.. ونعم هناك الآن مصلحة أميركية مباشرة في طي صفحة "الملف النووي الإيراني" والتركيز على المنافسة الأميركية مع الصين وروسيا..
نعم لكل ذلك، لكن العرب تحديداً أمامهم خيار لن يخرج عن أحد أمرين: إمّا التضامن القومي والتوحّد الوطني ووضع رؤية عربية مشتركة للتعامل مع كل القوى الدولية والإقليمية المعنية بالمنطقة، أو البقاء في دائرة التوظيف الأجنبي والدخول في "المشروع الإسرائيلي" وما فيه من شرذمة فتّاكة للشعوب والكيانات!
وسوم: العدد 959