ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى محك طالوتي لتمحيص ثباتها على دينها وهويتها
من المعلوم أن قدر الإنسان في هذه الحياة الدنيا هو خضوعه للابتلاء ،علما بأنه لكل فرد ابتلاؤه الخاص به ، وإن كان غيره قد يشاركه فيه بحكم أزمنة وأمكنة تجمعهم ، و إذا ما كان الابتلاء شاملا في عمومه إلا أنه يكون لكل فرد نصيبه منه .
ومن المعلوم أيضا أن الابتلاء يكون إما بالحرمان مما تميل إليه النفس البشرية وتعشقه وتهواه أو بإصابتها بما تخشاه وتنفر منه. وغالبا ما يكون ما ترغب فيه من الشهوات والملذات الممنوعة والمحرمة ، و يكون ما تنفر منه من الواجبات.
وطبيعة الابتلاء أنه محك للتمحيص . والإنسان منذ وجوده فوق سطح هذا الكوكب وهو يبتلى ابتلاء تفرضه ظروفه زمانا ومكانا . ولقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من الابتلاءات التي ابتليت بها البشرية المؤمنة عبر تاريخها الطويل .
ومن تلك النماذج ما ابتلي به جند طالوت الذين قدر الله عز وجل أن ينازلوا جند جالوت وهم أكثر منهم عددا وعدة . وخبر ابتلاء جند طالوت ورد في قوله تعالى : (( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )).
لقد كان المحك الذي محص به الملك طالوت من كان يريد أن يلقى بهم عدوه جالوت ،وقد قيل أن عددهم كان يومئذ ثمانين ألفا هو طاعة أمره بخصوص نهر مروا به قيل أنه نهر الشريعة المشهور والموجود بين فلسطين والأردن ، وكان بهم عطش شديد . وكان الغرض من عرضهم على هذا المحك هو قياس مدى جاهزيتهم لخوض نزال مصيري مع جند جالوت الذي كان يفوقهم عددا وعدة . ومعلوم أن من لم يصبر على شرب الماء وبه عطش، لا يمكنه يصبر على ما هو أشد من العطش بثباته في القتال أمام عدو شرس . وقد جاء في كتب التفسير أن من شربوا من النهر لم يذهب عنهم الظمأ بل ظلوا عطاشا، بينما الذين اكتفوا بغرفة منه ارتووا ، ولم يتجاوز عدد هؤلاء أربعة آلاف مقاتل ، وفي خبر آخر كان عددهم بعدد من خاضوا غزوة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع أن هؤلاء أطاعوا ملكهم إلا أن بعضهم ظل متخوفا من منازلة جند جالوت لولا الفئة الصابرة التي ثبتها الله عز وجل ، وقوّى إيمانها مما جعلها تستيقن أن القلة المؤمنة الصابرة تغلب الكثرة الكافرة بإذن الله عز وجل ، ومما يؤكد هذا الأمر هو أن داود عليه السلام رمى جالوت بحجر فقتله ، وقيل أن طالوت كان قد وعده إن هو قتل عدوه زوّجه ابنته .
وما يعنينا اليوم من قصة الملك طالوت هو العبرة من محكه الذي محص به جنده قبل لقاء عدوه جالوت ، ذلك أن كل مؤمن أو كل جماعة مؤمنة في كل زمان وفي كل مكان يخضعون لا محالة لابتلاء يكون عسيرا ليصلح محكا للتمحيص . وإذا ما كان نهر الشريعة هو ما ابتلي به جند طالوت ،فإن الأمة الإسلامية اليوم تخضع لابتلاء ، وإن شئنا قلنا لها نهرها الخاص بها إن لم يكن نهر ماء ، فهو نهر معنوي لا تستطيع الصبر على النهل منه إلا القليل منها . وهذا النهر إنما هو استلاب أو هرولة أو انبطاح أمام أعداء دينها ، وإقبال عليهم بلهف كإقبال جند طالوت على الشرب من نهر الشريعة في لحظة ظمإ شديد . وإذا كان الذين شربوا من النهر لم ترو غلتهم ، فإن الذين يسارعون في أعداء دينهم اليوم لن يجنوا من وراء ذلك إلا الندم والخيبة والخسارة تماما كما حصل لمن شربوا من النهر من جند طالوت ، ولم يشهدوا معه النصر الذي كتبه الله عز وجل له .
ونختم بالقول ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم أولا إلى محك طالوتي لتمحيصها ثم ما أحوج الفئة الممحصة منها إلى من يثبتها وهي تخوض مسارا عسيرا اختاره الله عز وجل لها كما اختار لجند طالوت منازلة جند جالوت ، علما بأن سنة الله سبحانه وتعالى في الخلق أنه جعل لكل عصر طالوته وجالوته .
وسوم: العدد 960