من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة-5 (الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)
مساقات
-1-
النموذج الآخَر من تراثنا القصصي الشَّعبي في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة تلك الحكاية الأُسطوريَّة التي تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة»، والتي تلقَّيناها من أُمَّهاتنا أطفالًا، قبل أن نعرف التِّلفاز والأفلام والعالَم الآخَر. وبالمقارنة، يبدو أن تلك الحكاية تُـمَثِّل الأصل العتيق لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة «سندريلا»، التي اتَّخذتْ صِيَغًا عالميَّة متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى. لعلَّ أشهرها النُّسخة العالميَّة التي صاغها الفرنسي (شارلز بِراولت Charles Perrault، 1628- 1703)، والتي أُنتجت فيلمًا للأطفال، 1950، مع الرسوم المتحرِّكة من قِبَل شركة (والت ديزني Walt Disney).
وقد تتالت الأعمال السينمائيَّة، خلال القرن العشرين وهذا القرن، حول أُقصوصة «سندريلا»، بلغاتٍ مختلفة، وبتنويعاتٍ متعدِّدة، على امتداد العالَم. ويبدو، أيضًا، أنَّ عشرات الصِّيَغ «السندرلِّيَّة» مُنْبَثَّة في العالم، وأنَّ لكلِّ بلدٍ من البلدان، أو ثقافةٍ من الثقافات، نسخة خاصَّة من هذه الحكاية، قد تختلف في بعض التفاصيل لكنَّها تنتمي جميعها إلى جذرٍ حكائيٍّ واحد.
في هذه الحلقة بحثٌ حول الأصل الافتراضيِّ الأَوَّل لتلك الأُقصوصة العالمـيَّة، مع قراءةٍ نقديَّةٍ مقارنة. وهي قراءة تَدخل في الأدب المقارن، منهاجًا وغاية. بَيْدَ أنها، قبل كلِّ شيء، تهدف إلى الانتقال بأدبنا الشَّعبي من مُدوَّنات المفاخرات، ورُكام المزايدات القَبَليَّة، ومزالق التسويق للدَّوارج العامِّيَّة، إلى استحياء القِيَم الأدبيَّة الكامنة في التراث الشَّعبي، واستلهام معطياته الجماليَّة الفنِّيـَّة، بما يتساوق مع العصر، ويَبذر آمالًا في مستقبلٍ راشدٍ، نكون فيه- نحن العَرَب- أكثر وعيًا بما نُـبْقِي من موروثاتنا وما نَذَر.
-2-
ويبدو هذا الضرب من البحث المقارن في أصول (سندريلا) ونُسخها العالميَّة عتيقًا في الغَرب، وبحرًا زاخرًا، فوق ما قدَّرناه في البدء. إذ تُعَدّ حكاية سندريلا من أكثر الحكايات الشعبيَّة انتشارًا في العالَم وأقدمها. ويمكن أن نشير هنا، مثلًا، إلى كتاب (مارتِن رولف كوكس Marian Roalfe Cox)، بعنوان «Cinderella: Three Hundred and Forty-Five Variants ثلاث مئة نسخة من قِصَّة سندريلا وخمس وأربعون».(1) وهو كتاب يقع في ما يربو على 500 صفحة، نُشِر في (لندن) 1893.(2) وإذا كان هذا الكتاب القديم يشير إلى 345 نسخة من (سندريلا) في العالم، فإن مصادر أحدث تشير إلى أكثر من 350 نموذجًا في العالم، ليست قِصَّة سندريلا المعروفة سوى واحدة منها. وإنْ كنَّا نلحظ أن كثيرًا من تلك النماذج لا يتعلَّق من البنية السرديَّة في أُقصوصة سندريلا إلَّا بموضوعة الفتاة البائسة التي يُعَوِّضها القَدَرُ، فتَتَبَدَّل حياتُها من حالٍ إلى حال.(3) وتلك الجهود تدلُّ على اهتمام واسع بهذا المأثور العالمي، توثيقًا ودرسًا. بَيْدَ أن من العجيب أن ترى تلك الدراسات تُعرِّج في أقطار العالم، من (أميركا اللَّاتينيَّة) إلى (أوربا) إلى (الهند) وصولًا إلى (الصِّين)، متخطِّية العالَم العَرَبي، الذي قد يكون في تراثه أصل الحكاية. ذلك أنه- باستثناء صورة من تلك القِصَّة تُعْزَى إلى (مِصْر) القديمة، وأخرى مجهولة العصر تُنسَب إلى (العراق)- لا نقف على اهتمامٍ بجذور هذه القِصَّة في المنطقة العربيَّة. على حين تُتُـبِّعت تنويعاتها في بلدان العالَم، وبأسماء متعدِّدة، أحدها اسم بطلة النموذج (الآيسلندي)، وهو شبيه إلى حدٍّ لافت باسم بطلة قِصَّتنا: (الفتاة التركيَّة مجادفيج Turkey Girl Mjadveig). ومن تلك البلدان التي عُثِر على نماذج من (سندريلا) فيها: (الصِّين، فيتنام، كوريا، الفِلِبِّين، الهند، أفغانستان، إنجلترا، روسيا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا، البرتغال، آيسلندا، فرنسا، إيطاليا، وكندا)، وغيرها. وهو نُقصان يضيف إلى مشروعيَّة جهدنا التأصيلي عنصرًا جديدًا، يتعلَّق باستدراكٍ على تلك البحوث الغربيَّة الكثيفة حول المأثور «السندرلِّي»، إنْ جاز التعبير، التي تُغفِل من العالَم ما تجهل، أو ما لا تريد أن تعلم، كما تفعل في قضايا معرفيَّة كثيرة، مدَّعيةً البحث العِلميَّ الدقيق والجذري، مناقضة أصوله في التجرَّد والاستقصاء؛ وذلك لـما تتعامل به غالبًا من انتقائيَّةٍ وعيونٍ عُوْر. ومع هذا، فإنَّ من الإنصاف الاعتراف بالتقصير العَرَبي عن تدوين المأثورات السرديَّة العتيقة. فذلك التقصير، قبل غيره، هو المسؤول عن إغفال القِصَّة العربيَّة.
-3-
ومن أقدم النماذج لأُقصوصة (سندريلا) النموذج (الفرعوني)، الذي سجَّله المؤرِّخ الإغريقي الروماني (سترابو Strabo Στράβων، -24م)(4)، في القرن الأوَّل قبل الميلاد وبعده. ثمَّ النموذج (الصيني) المنسوب إلى مؤلِّفه (Duàn Chéngshì)، تحت عنوان: “Yé Xiàn”، الذي كُتِب حوالَى 850م.
وكان قد كَتب الإيطالي (جيامباتيستا باسيلي Giambattista Basile)، في القرن السابع عشر، مجموعته «حكاية من حكايات Lo cunto de li cunti»، (1634- 36)، التي تضمَّنت واحدة من أقدم النماذج السندرلِّيَّة الأوربيَّة، باسم «سندريلا القِطَّة La gatta Cenerentola».
ثمَّ جاءت صياغة (شارلز بِراولت)، «سندريلا، أو الحذاء الزجاجيّ الصغير Cendrillon, ou la petite pantoufle de verre»، ضمن مجموعته «قصص من الماضي وحكايات أخلاقيَّة Histoires ou contes du temps passé, avec des moralités: Contes de ma mère l'Oye»، التي نُشرت أوَّل مرَّة في (باريس)، 1695، وأُعيد نشرها 1697.(5)
وللحديث بقيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو ما يذكره الدليل الدراسي عن سندريلا، لعام 2009/ 2010، (2009/10 Cinderella Study Guide)، الذي أصدرته (إدارة التعليم والتوعية بشركة أوبرا الكنديَّة The COC’s Education and Outreach Department).
(2) Cox, Marian Roalfe. (1893). Cinderella: Three Hundred and Forty-Five Variants of Cinderella, Catskin and Cap o' Rushes. With an introduction by Andrew Lang. (London: Published for the Folk-Lore Society by David Nutt).
(3) انظر مدوَّنة (Rachel Hope Crossman) على «الإنترنت»، التي سنتطرق إليها لاحقًا تحت عنوان «ب. نماذج سندريلا في الثقافات غير العربيَّة». والمدوَّنة على الرابط: http://rachelhopecrossman.blogspot.com
(4) See: (1967), THE GEOGRAPHY OF STRABO, With an English Translation By: Horace Leonard Jones. (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press- London: William Heinemann LTD), v. 8, Book 17, p. 93- 95.
(5) وهي في ترجمة المجموعة بالإنجليزيَّة:ـ
Perrault, Charles, (1921), Old-Time Stories told by Master Charles Perrault, Translated by: A. E. Johnson (New York: Dodd Mead and Company), 75- 91.
(*) هذا المقال جزء خامس من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّم موجزها في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd
وسوم: العدد 960