يا لُغَتاهْ! ثقافة اللغة العربية
يا لغتاه (كلمتي في مؤتمر بيت اللسانيات الدولية احتفالا باللغة العربية
أما "يَا لُغَتَاهْ" فاسم أحد كتبي الرقمية:
http://mogasaqr.com/.../%d9%8a%d8%a7-%d9%84%d8%ba%d8%aa.../
قد نظرت فيه إلى أمومة "يا" باب النداء (أنها أكثر أدوات النداء عملا ودلالة)، حتى لا يخلو نداء لغتي مع طلب إقبالها -ولو مجازا!- من التعجب والاستغاثة والندبة جميعا معا!
أنادي لغتي نداء من لا يأنس إلا بها، وأتعجب لها تعجب من يحبسه العجز عن شأوها، وأستغيث بها استغاثة من لا يفكر إلا بها، وأستغيث لها استغاثة من لا يرضى أن يذلها أحد بعد عزها، وأندبها ندبة من لا يفتأ يذكر مجدها ويخشى فقدها.
وأما ثقافة اللغة العربية فمجال واسع، أنبه منه على أربعة محاور فقط:
- تداخل الوجود العربي والتفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- المولد، والمنشأ، والملهى، والمسعى، والمطمح...
- تداخل التدين بالإسلام والتفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- الإسلام، والإيمان، والإحسان...
- تواصل الماضي والحاضر والمستقبل والمشرق والمغرب والشمال والجنوب، في التفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- الاستماع، والتحدث، والقراءة، والكتابة...
- تكامل اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية، على رغم الاستقلال:
- الخلود، والعموم، والفاعلية، والخصوصية...
وفيما يأتي أشير إلى طرف من أمر هذه المحاور الأربعة.
(1)
- تداخل الوجود العربي والتفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- المولد، والمنشأ، والملهى، والمسعى، والمطمح...
قديما فَرَّ بعض آل البيت إلى بلاد العجم من بلاد العرب، وذابوا في الناس؛ فاستعجموا على رغم نسبهم العربي الشريف! أخبرني أخي الحبيب الدكتور تولوس مصطفى (رئيس اتحاد معلمي اللغة العربية بإندونيسيا)، أن إندونيسيا (بلده)، حلَّته طوائف أجنبية مختلفة، ولكن لم يَذُبْ منها في الإندونيسيين غيرُ العرب، وشهد على صدقه عندئذ عَفْوًا، شابٌّ كان معه، مصريٌّ فَذٌّ، متزوج من إندونيسية وله منها ولد، كتبتُ عنه فيما بعد مقالي "آية الله علي بن عبد المنعم":
http://mogasaqr.com/.../%d8%a2%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84.../
فهؤلاء العرب الآن إندونيسيون، ولو كانوا من آل بيت النبي العربي أفصح العرب طُرًّا، الذي سَمَح له البيان الأبيّ، صلى الله عليه، وسلم!
نعم؛ فإن اللغة تستولي على صاحبها من قبل أن يولد، ثم تشب معه عن الطوق، لا تدعه لا في يقظته ولا في نومه، بل ربما انكشفت في هذا أوضح مما تنكشف في تلك؛ ولأمر ما يؤثر بعض الناس الانفراد بنومه!
ولقد درس عليَّ العربية من لا يتكلمها، ثم زارني في مكتبي، فدخل علينا عندئذ أحد إخوانه، وأقبل كلٌّ منهما على الآخر يكلمه بلغتهما؛ فغضبت أن انفردا عني معي بما يشبه الإسرار -وهو عندنا من سوء الأدب- فاعتذر إليَّ تلميذي بأنهما إنما فعلا ذلك عفوا، ولو لم يفعلا لخَشِيا على أُخُوَّتِهما!
وقد بلغ من وعي بعض تلامذتنا ما ينبغي أن تكون عليه منزلة اللغة من صاحبها، أن أطلق حَمْلَةً تثقيفية، تستبدل بالشتائم العجمية شتائم عربية فصحى؛ فلما علقت على عمله أنني أنزه العربية الفصحى عن ذلك، وأتركه للعامية، رَفْعًا وخَفْضًا- خالفني إلى موافقته من لم يخالفني قَطّ، تمكينا للعربية الفصحى من أحوال العربي المعاصر المستعجم؛ فذكَّرني قول أحد كبار الأطباء المصريين ساخطا على زملائه: أنا أمرض بالعربية فكيف أعالج بالإنجليزية!
ألا إن العربي إنما يحيا في لغته العربية، قبل أن ينطلق في الهواء على الأرض تحت السماء؛ فإذا استقامت لغته على العروبة استقامت حياته، وإذا اعوجت اعوجت! وهل العربي إلا كلمة! فهل تحيا هذه الكلمة إلا في تعبير، وهذا التعبير إلا في جملة، وهذه الجملة إلا في فقرة، وهذه الفقرة إلا في فصل، وهذا الفصل إلا في كتاب، وهذا الكتاب إلا في جَمْهرة!
(2)
- تداخل التدين بالإسلام والتفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- الإسلام، والإيمان، والإحسان...
(3)
- تواصل الماضي والحاضر والمستقبل والمشرق والمغرب والشمال والجنوب، في التفكير والتعبير باللغة العربية الفصحى:
- الاستماع، والتحدث، والقراءة، والكتابة...
أَيا جارَتا إِنّا أَديبانِ هاهُنا وَكُلُّ أَديبٍ لِلْأَديبِ نَسيبُ
لكأني بي واقفا على امْرِئِ القَيْسِ مِنْ قَبْلِ أن ينتهى إلى مُخَلَّدِهِ، أُحَرِّفُ له بيتَه؛ فيعجبُه التَّحريف، ويُدْهِشُهُ مَجْمَعُ ما بيني وبينه على انفراط الدهور؛ فأُذَكِّرُهُ ثلاثة الأعمالِ الكِبارِ التي نَظَمَ بها أَدَبَه، أَنَّني تمسكتُ بها أصولًا لغوية تفكيرية لا أزيغ عنها حياةً؛ فَدَفَقَتْهُ في أوردتي؛ فيستنكر الاستطالة عليه؛ فأفصِّلها له وكأنْ مجلسي بالجامعة قد انعَقَدَ، مُتَذَمِّمًا من انعكاس المقامين:
أولها التحديدُ-يا مولانا- وبه كنتَ تُقلّب مادة الكلام العربي حتى يظهر لك ما تريد. وثانيها الترتيبُ، وبه كنتَ تُقدّم من هذا الظاهر وتؤخر، حتى يستقر لك ما تريد. وثالثها التهذيبُ، وبه كنت تحذف من هذا المستقر وتضيف، حتى ينفرد لك ما تريد، رائدك في كلٍّ منها العَروض الذي طَرِبتَ له أوَّلًا؛ فأقبلتَ تُغَنّيه ومَعازِفُك مفرداتُ الكلام العربي المبين.
فيُقْسم بهواه - قاتله الله!-:
- إنْ خطرَت لي تلك الأعمالُ ببال!
فأقسم بربّي -سبحانه، وتعالى!-:
- إلّا تكن خَطَرَتْ لك أسماءً، لقد خَطَرْتَ بها أفعالا!
فيُطْرِقُ منشدا:
- "بَكى صاحِبي لمّا رَأى الدَّرْبَ دونَهُ وَأَيْقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيْصَرا
فَقُلْتُ لَه لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّما نُحاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمـوتَ فَنُعْذَرا"،
نَدَمًا أَنْ لم يَنْتَجِبْ للرِّحْلة؛ فَانْقَطَعَ، وأنْ كانت إلى قَيْصَرٍ؛ فَاسْتَعْجَمَ!
نعم؛ فمن مجلسي هذا الآن في عَيْلَم (مكتبي في جزيرة الروضة، من القاهرة الباهرة)، أستطيع أن أتلوَ ما تيسر من القرآن الكريم والشعر النفيس والنثر الشريف، فأسمعَ أصواتا عدد النجم والحصى والتراب، تُردّد ما أصبتُ، أو تكمّل ما نقصتُ، أو تصوّب ما أخطأتُ- وإن كنت أخشى أن تتبدَّل مخارجُها وصفاتُها، فتنتسخ -معاذ الله!- وتمتسخ!
ثم نعم؛ فقد درجَت هذه الأمة من قديم، على ألا يتجاوز أبناؤها طفولتهم حتى يستوعبوا من الكلام العربي المبين، ما يؤيدهم في مقامات الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة جميعا معا، ولعل من ذلك ما أُثِر عن العرب قبل الإسلام من إرسال أطفالهم مُدَّة مَديدة، إلى قبائلَ غيرِ قبائلهم، ينهلون من مناهلها صفو الفصاحة والبلاغة واللَّقانة، وهو ما جعلته من مناهج التأليف في العربية قبل القرآن الكريم، بهذه المحاضرة:
http://mogasaqr.com/.../%d9%85%d8%b3%d8%ac%d9%84-%d9%85.../
لقد انتجع المتنبي قديما بلاد فارس، وقال فيها نونيته البديعة:
"مَغَاني الشِّعْبِ طِيبًا في المَغَاني بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيَّ فِيهَا غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ"؛
فلم يكد يتجاوز بانبهاره بيت مطلعها، حتى نَغَّصَه فيما وَلِيَه بالاستيحاش من العُجمة! وهو بلا ريب ألطف ذوقا من ذلك البدويّ الذي قال في مثل حاله:
- "لَعَنَ اللهُ بِلادًا لَيْسَ فِيهَا عَرَبٌ"!
ولعله لو مر اليوم في طريقه من إحدى المدن الأعجمية، فسمع العربية- لهربَ مِن متكلمها!
(4)
- تكامل اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية، على رغم الاستقلال:
- الخلود، والعموم، والفاعلية، والخصوصية...
عملت لجامعة السلطان قابوس العمانية -طَيَّبَ اللهُ ذِكْرَاهَا!- ربع قرن تقريبا، وأحاط بي من العرب حيث أعمل وحيث أقيم، إخوةٌ وأصدقاء وزملاء مشارقةٌ ومغاربة، واتصلت بيني وبينهم الحوارات، وفهمت كلامهم العامي، وافتتنتُ به سياحةً لغوية مجّانية، وظننته يجري على ما فهمت، حتى نبهني بعضهم على أنه إنما يجتهد حرصا على إفهامي، أن يُجريَ عاميتَه مَجرى الفصحى، وأن يستبدل بغرائب عاميته قرائب الفصحى، وكأنما خشي مثل حالَيِ الصديقتين العمانية والمصرية اللتين بَنيتُ عليهما مقالي "التباسُ العمانية والمصرية":
http://mogasaqr.com/2018/06/17/16213/
"صديقتان بحيٍّ من أرياف عمان: عمانية ومصرية، متآلفتان على عهد العمانيين والمصريين جميعا، لا تخرجان إلى السوق إلا معا، تذهبان وتؤوبان مشيا، غير كالّتين ولا مالّتين. هاهما كأنما خدعتهما عن الطريق حَكاياهُما الكثيرة الطويلة؛ فأبعَدَتَا الغايةَ، واستثقلَتَا المشيَ، وإذا حافلةُ ركابٍ على مقربة، فتصيح العمانية بالمصرية:
- اسْتَنِّي!
فتطمئن المسكينة المهدودة؛ فتفوتهما الحافلة!
و{اسْتَنِّي} في العمانية {أَسْرِعي}، فصيحة عالية من {الاسْتِنان}، ومادتها {س، ن، ن}، غير أن المصرية على لهجتها فهمتها {تَمهَّلي}، محرفة عن {اسْتَأْنِي}، من {الاسْتِيناء}، ومادتها {و، ن، ي}"!
ألا إنه لا غنى بالعامة عن الفصحى القريبة، كما لا غنى بالخاصة؛ فلو كانت المصرية تعرف أن "اسْتَنِّي" "أَسْرِعِي"، أو لو كانت العمانية قالت: "أَسْرِعِي" لا "اسْتَنِّي"- ما فاتتهما الحافلة!
وسوم: العدد 960