حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ودلالات غزوة حمراء الأسد
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في كل الفضائل والمكرمات، وكان القدوة الكاملة في كل شيء، فقد أعدّه الله عز وجل، ليكون الأسوة التي يحتذيها المسلمون حتى يرث الأرض ومَنْ عليها، من أجل ذلك تجد عظَمته صلى الله عليه وسلم في الحرب والسلم، والعبادة والقيادة، والحل والترحال، والمطعم والملبس، وشؤون الأسرة جميعاً، وتدبير أمور الدنيا، والقيام بأمور الدين.
وإذا كنت تجد بعض الأنبياء الكرام لم يمارسوا بعض جوانب الحياة، كالمسيح عليه الصلاة والسلام، الذي لم يحارب ولم يتزوج مثلاً، مما يجعلهم قدوة كريمة لكنها غير كاملة، فإن الرسول الكريم محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد مارس جوانب الحياة جميعاً مما يجعله القدوة الكريمة الكاملة في كل شيء.
وربما احتار المرء وهو يريد أن يختار جانباً من جوانب عظمته -صلى الله عليه وسلم- قدوة كاملة مثلى، نظراً لسعة جوانبها، وكثرة شواهدها، وعظمة مواقفها، لكنه في النهاية سيعود بمحصول وفير أياً كان الجانب الذي يختاره.
وسنتوقف هاهنا قليلاً عند جانب من جوانب عظمته، وهو جانب زعامته للمسلمين قائداً ورجلَ دولة. فقد أثبت -صلى الله عليه وسلم- في هذا الميدان، كما في غيره من الميادين، تفوقه الكامل الذي يجعله قدوة كاملة، ليس لها نظير قط، حيث ظهرت قدرته على التصرف السريع، وحل المشكلات الخطيرة الطارئة، ونجاحه الرائع في حل المعضلات بحزم وتدبير وإحكام، وتخطيط ذكي بعيد. إن ذلك يظهر في مواقف كثيرة جداً، منها موقفه في أعقاب غزوة أُحُد.
لقد خسر المسلمون معركة أُحُد، وترتب على ذلك عدد من الأمور الخطيرة جداً وهي:
- طمعت القبائل العربية بالمسلمين.
- ضعفت روح المسلمين المعنوية.
- سقطت هيبتهم العسكرية التي ارتفعت يوم بدر.
- تنفس اليهود والمنافقون الصعداء، وأخذوا يتربّصون الشر بالمسلمين.
- قام احتمال بأن تعود قريش إلى المدينة المنورة لتستثمر نصرها الجزئي الذي أحرزته في أُحُد، وتستأصل المسلمين نهائياً باعتبار الفرصة قد سنحت لها.
فلننظر الآن كيف فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتدارك الأمر وإنقاذ الموقف. إنه ما كاد يصل إلى المدينة المنورة، حتى أمر المسلمين الذين كانوا معه يوم أُحُد أن يخرجوا في اليوم التالي لمعركة أُحُد مباشرة، لملاحقة قريش، على الرغم مما بالمسلمين من إعياء وجراحات. وخرج الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، متتبعاً آثار المشركين الذين ما كادوا يسمعون بهذا التحرك غير المتوقع، حتى خافوا، إذ إنّهم قدّروا أن المسلمين قد جاؤوا للثأر منهم، والانتقام لما جرى بالأمس عند أُحُد، وأنه قد لحق بهم من تخلَّف يوم المعركة عنهم. لذلك هربوا مسرعين، بعد أن كانوا يفكّرون بالرجوع إلى المدينة المنورة لاستئصال المسلمين. وهذه الغزوة هي غزوة حمراء الأسد التي لم يقع فيها حرب، لكن هذه العملية الجريئة، غسلت آثار هزيمة أُحُد كلها، وبشكل حاسم وسريع جداً.
وترتب على غزوة حمراء الأسد، أن ارتفعت الروح المعنوية عند المسلمين، وزال طمع القبائل بهم، وعادت هيبتهم العسكرية ترتفع، وعدل المشركون عن فكرة العودة إلى المدينة المنورة لاستئصال المسلمين، بل سارعوا للهرب، وعاد الرعب يسيطر على المنافقين واليهود في المدينة المنورة، وانكمشوا على أنفسهم خائفين.
ولقد تحققت هذه المكاسب الكبيرة، من خلال عملية حكيمة واحدة، قام بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبدا فيها بوضوح أنه قائد سياسي ورجل دولة ليس له مثيل قط.
إن الهزيمة النفسية هي أخطر ما تصاب به الأمم والجماعات، والهزيمة العسكرية أهون منها بكثير، لذلك يحاول الأعداء الأذكياء إحلال الهزيمة النفسية بخصومهم بعد الهزيمة العسكرية، لأن النهوض من الهزيمة العسكرية مهما فدحت أمر ممكن جداً حين توجد الإرادة الفاعلة، أما الهزيمة النفسيّة فإنها تشل قوى المصابين بها، بجبال من الوهم، وتقعد بطاقاتهم بكوابح من الرعب، وتقتل روح التحرك فيهم بكثرة الخوف والتوجس والظنون والحسابات. فإذا بهم خُشُب مسنّدة، يحسبون كل صيحة عليهم.
وما من ريب في أن غزوة حمراء الأسد، سدّت كل مدخل يمكن أن تتسلل منه احتمالات الهزيمة النفسية، فحمت المسلمين بذلك من التدهور إلى قاعها المدمر، ثم نقلتهم نقلة أخرى، جعلتهم في موقف القوي، ذي العزم الأبي، والروح الحية المتدفقة، إذ خرجوا يطاردون خصمهم ويضطرونه إلى الفرار، وهو بالأمس قد أوقع بهم الهزيمة.
إن حمراء الأسد غنية بالدلالات والعبر، وهي تدل على عظمة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- زعيماً سياسياً، وقائد دولة وجيش، وإنه يجدر بكل من يتوقف عند أُحُد ألا يهمل الحديث عنها قط؛ لأن في ذكرها إكمالَ العرض التاريخي، وإتمامَ استجلاء عبره ودروسه.
وسوم: العدد 960