خلود اللغة العربيّة ومنطقيّتها
تتعدّد لغات الناس بتعدّد بيئاتهم وأزمانهم، وثمّة لغات ماتت مع أقوامها، ولم يعد لها وجود إلّا في النقوش التي احتفظت بها الطبيعة، فأين المسماريّة والهيروغليفيّة وكثير من لغات الأقوام التي بادت ولم يبق منها شيء؟
تبقى العربيّة الفصحى خالدة بخلود القرآن الكريم، فله الأثر الكبير في اللغة العربيّة تطوّراً وحفظاً بين عدد هائل من البشر منذ فجر الدعوة الإسلاميّة وحتّى قيام الساعة، والمسلمون مهما كانت جنسيّاتهم ولغاتهم الأصليّة يحتاجون العربيّة لغة للدين وشعائره؛ من صلاة وحجّ وقراءة قرآن. ولذلك كانت اللغة العربيّة من المصادر المهمّة لتكوين شخصيّة الإنسان العربي والمسلم، بل إنّ اللغة العربيّة في تراثها وتعدّد لهجاتها كانت هُوِيّة دالّة على القبائل العربيّة، فهناك كلمات لم تكن مستخدمة إلّا في قبائل معيّنة أو طريقة للنطق لم تكن إلّا محصورة في جماعة خاصّة من بين الجماعة العربيّة العامّة، أو أنّ لبعض الكلمات مدلولاً مختلفاً بين القبائل العربيّة، كما تشير حادثة "أدفئوا الأسارى"، وغيرها ممّا هو معترف به في كتب التراث العربي، واستند عليه في تفسير الشعر والقرآن الكريم.
ولا يعني خلود العربيّة أن تتحول فقط إلى لغة تخاطب بشريّة، وعلى نطاق واسع، بل أيضاً إنّها تعني قدرة اللغة العربيّة على استيعاب متطلّبات الحياة المعاصرة، وقدرة اللغة العربيّة على اشتقاق كلمات وتوليدها لمعان جديدة يحتاجها الناس يوميّاً في شتّى المناحي الاجتماعيّة والثقافيّة والفنّيّة والعلميّة، لتتجاوز واقعها التراثي إلى آفاق أرحب وأوسع، وتتمدّد كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
إنّ اللغة العربيّة لغة حيّة، علميّة، وأدبيّة، فثمّة معاجم كثيرة متخصّصة قديمة وحديثة للمصطلحات العربيّة في العلوم المتعدّدة، تبيّن خلود اللغة العربيّة. ويكفي للتدليل على أهمّيّة العربيّة- عَقَديّاً على الأقلّ لدى المسلمين- أنّها- كما قال الرسول الكريم- "لغة أهل الجنّة في الجنّة". وهي اللغة الوحيدة التي تحسم الانتماء القومي، كما جاء في الأثر "من تكلّم العربيّة فهو عربيّ".
وتنبغي الإشارة إلى أنّه لا يعني أنّ لغة القرآن الكريم هي العربيّة أنّ اللغة العربيّة لغة مقدّسة. بل إنّ النصّ مقدّس واللغة بشريّة، ما يعني حيويّة اللغة وتطوّرها وتبدّل معانيها وحتّى قواعدها وإن بشكل ميسور، وسبق أن تحدّثت عن بعض جوانب اللغة العربيّة وعبقريّتها وشاعريّتها وشعريّتها في كتابي "بلاغة الصنعة الشعريّة" في الفصل الخاص بشعريّة القرآن الكريم. عدا عشرات الكتب إن لم يكن المئات ممّا تحدّث مؤلّفوها عن جوانب عظمة اللغة العربيّة وعبقريّتها المتكوّنة من داخلها ومن قوانينها الذاتيّة.
عدا هذا وذاك، فإنّ هناك جوانب مهمّة كثيرة من عبقريّة اللغة العربيّة، وعبّر عنها الشعراء والنقّاد والدارسون والمعجميّون وعلماء التجويد وعلماء الأصوات والمفسّرون، حتّى أصحاب النكت والطرائف. ومن اللافت للنظر، ويدعو المرء إلى التدبّر أنّ بعض ظواهر اللغة كالجناس والمشترك اللفظي والتورية استخدمت في كثير من المواقف الطريفة، بل وكانت الوسيلة المثلى للخروج من المأزق لدى بعض العلماء أو المتطفّلين، ولعلّ ما اشتُهر من حادثة أبي نواس والجارية "خالصة" دليل على ذلك؛ فلم يخلّصه من الموقف وسوئه إلّا البدهيّة اللغويّة وسرعة الخاطر. وهناك الكثير من الطرائف والنوادر المبثوثة في كتب التراث ذات اتّصال باللغة أو أحد علومها أو ظواهرها الفنّيّة، وربّما يلزم ذلك دراسة خاصّة للكشف عن تلك الجوانب المهمّة ذات البعد الترفيهي في استعمال اللغة، وتوظيفها في كثير من الألغاز التي تدعو إلى التفكير اللغوي من أجل التوصّل إلى الحلّ.
وتتجلّى في علوم العربيّة عبقريّتها وانضباطها واتّساق قواعدها؛ فالأصوات والصرف والنحو علوم تكشف المعنى وتأسّس له على أسس منطقيّة، فهندسة الكلمة في اللغة العربيّة ليست عشوائيّة، بل تحكمها مجموعة قوانين منضبطة صوتيّة ومعنويّة، وبناء الجملة في النحو العربي له ارتباط بكثير من الظواهر الأسلوبيّة المدروسة في أبواب النحو والبلاغة، وذات تأثير وعلاقة بالمعنى، وليس هذا وحسب، بل إنّ ما يميّز الجملة العربيّة أحياناً تعدّد دلالات المفردة أو الجملة تبعاً للتوجيه النحوي، إذ تقبل الكلمة المعيّنة في تلك الجمل توجيهات نحويّة ينتج عنها تأويلات معنويّة، وقد شاعت مثل هذه الظاهرة في كثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة الشريفة والشواهد النحويّة الشعريّة، ما منح هذه الجمل انفتاحاً معنويّاً ليرتبط في سياقه التركيبي الذي جاء فيه، وقد انتبه العلماء السابقون إلى هذه الظاهرة فألّفوا فيه الكتب من مثل كتاب "مُشكل إعراب القرآن" و"نكت الأعراب فى غريب الإعراب فى القرآن الكريم"، و"الإنصاف في مسائل الخلاف"، وغيرها الكثير من الملحوظات التي بثّها النحاة والمفسّرون في كتبهم، وكان لهذه الظاهرة ارتباط بشكل أو بآخر بمباحث أخرى كظاهرة التأخير والتقديم والحذف- نحويّاً-، وظاهرة التكثيف- بلاغيّاً، والإيجاز بنوعيه، والإطناب وغيرها، ممّا هو مبسوط في الكتب ذات العلاقة.
وبتاءً عليه، ولد من رحم ذلك نوعان من النحو؛ النحو الوظيفي، إذ يحافظ فيه كاتبه- وظيفيّاً- على سلامة التركيب في الجملة وصحّتها اللغويّة في الكلمات وعلاقاتها معاً، واختصّ هذا النحو بالنصوص ذات الصبغة الرسميّة الوظيفيّة التي تهتمّ بالمعنى الأوّل للجملة كما هي دون إضافات بلاغيّة، كالمراسلات الرسميّة والتقارير الصحفيّة والطبيّة وما شابه ذلك. في حين اهتمّ النوع الثاني من النحو بما يعرف بالنحو الفنّي، حيث ترعرعت "اللغة الفنّيّة الأدبيّة" التي تستند إلى ظواهر بلاغية تهتمّ بزخرفة الجملة؛ معنى وتركيباً حسب علوم البلاغة الثلاثة التي تُعنى بالكشف عن جماليّة هذه اللغة، وتفلسف أو تحاول أن تعلّل فنّيّاً ورود هذه اللغة على ذلك النحو الذي جاءت فيه، وقد تجلّت هذه اللغة في النصوص الشعريّة عالية المستوى، وفي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وفي لغة النثر الفنّي الصوفي وما هو على شاكلته.
ويلحق بهذه الظاهرة النحويّة البلاغيّة، ظاهرتا الإعراب والضبط الصرفي، وأثر ذلك في علوم البلاغة والتحكّم ببعض مباحثها في علم البديع كالجناس مثلاً، وعلم الدلالة في اختلاف معنى اللفظ باختلاف ضبطه الصرفي، كما هو الحال في الكلمات المثلّثة كلفظ "البرّ"- مثلاً- الذي له ثلاثة معانٍ مختلفة حسب ضبط حركة الباء.
وقد استتبع ظاهرة الجناس في العربيّة، وخاصّة الجناس التامّ أن وجد في الثقافة العربيّة، في الشعر العربيّ الشعبي فنّ العتابا الذي استفاد وبقوّة من ظاهرة الجناس في بناء المقطوعة التي ستكون مثلومة إن لم يكن فيها الجناس تامّاً، سواء أتمّ التلاعب باللفظ ومطّه أم لا. إنّه نوع من العبقريّة المتاحة والممكنة في قوانين اللغة ذاتها.
كما أنّ العروض وعلوم البلاغة تكشف عن موسيقيّة اللغة وشعريّتها وشاعريّتها وتنوّع أساليب التعبير غير المنتهية، وهي علوم غير منبتّة عن الفروع الأولى التي ذكرتُها (الأصوات والصرف والنحو)، فلها الكثير من الارتباطات في مباحث الأصوات والصرف والنحو والبلاغة، فلا شيء في العربيّة وظواهرها وجد وحده، بل لكلّ علم من علومها امتداد في غيره، يؤثّر فيه ويتأثّر به. وهذا مظهر آخر من مظاهر عبقريّتها التي لا بدّ من أن يلتفت إليه المعلّمون عندما يعلّمون اللغة العربيّة وفنونها الأدبيّة ويحلّلون نصوصها الإبداعيّة.
إنّ العروض بوصفه علماً من علوم اللغة العربيّة متّصلاً بالشعر تحكمه قواعد مضبوطة في بناء الوحدة الموسيقيّة، وفي بناء البيت الشعري والقصيدة بشكل عامّ، ولا تكتمل صورة القصيدة الشعريّة على نحو مؤثّر إلّا إذا تمّ الالتزام برياضيّات العروض العربيّ متّصلة أيضاً بجمال التعبير الذي تفرض قوانينه التعبيريّة علوم البلاغة الثلاث: علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع. إضافة إلى هذين الأمرين، فإنّ لكلّ عروض عربيّ لحنه الموسيقي الخاصّ به، بحيث يتّحد هذا العروض مع الكلمات وجِرسها وموضوعها في وحدة واحدة من خلال القطعة الموسيقيّة المتكاملة الأركان لتُمْتِع المتلقّي، وتُحْدِث فيه النشوة وتربّي فيه الذائقة الجماليّة، وتُشبع لديه ملكة التخييل والاستحضار والعيش مع الكلمات وبها، علاوة على ما تتمتّع به القصيدة العربيّة من هندسة شكليّة، محكومة بالتناظر بين شقّي القصيدة الكلاسيكية، ومضبوطة بالقافية الموحّدة وحركة الرويّ المتماثلة منذ البيت الأول وحتى آخره. إنّها نوع من الهندسة المتكاملة التي ساهم في إبرازها وتحقّقها عناصر متعدّدة منبثقة من رحم اللغة التي أنشأتها.
وليس القصيدة وحسب ما يلزمه المنطق الرياضي في البناء اللغوي، فالنصوص النثريّة أيضاً يحكمها قانون مشابه، فلا نصّ مترابط ذو إيقاع سلس إلّا وللمنطق الرياضي له تدخّل فيه، من خلال مراعاة الصحّة اللغويّة في بنائه على مستوى الكلمة، ثمّ على مستوى الجملة، ثمّ الترابط بين الجمل، وصولاً إلى الفقرة المترابطة، والترابط الكلّي بين الفقرات التي يشكّل نصّاً مترابطاً يتمحور حول فكرة أساسيّة لها مجموعة مضامين تدعمها منطقيّاً، لتؤدّي تلك النصوص فاعليّتها في ذهن المتلقّي.
ويتّصل بهذا كلّه- شعراً ونثراً- مفهوم "الإيقاع" الذي لم يكن مقتصراً على الشعر وحده، فللنثر إيقاع، كما للشعر إيقاع، ولعلّ دارسي القرآن الكريم هم أوّل من أشاروا إلى اختلاف الجِرْس الموسيقي لسور القرآن بين السور المكيّة وبين السور المدنيّة، وهذا سرّ دقيق من أسرار النصّ القرآني. وبناء على هذه المنطلقات المهمّة وهذه القوانين الذاتيّة اكتسبت قصيدة النثر شرعيّتها الجماليّة لتكون ضمن نظريّة الشعر العربي المعاصر؛ لاعتمادها على نظريّة الإيقاع من خلال ما في الكلمات من موسيقى داخليّة. فكأنّ قصيدة النثر هي إحدى تجلّيات النصّ القرآني، إن سُمح بهذه المقاربة، بصرف النظر عن منشأ هذا النوع من الكتابة في الغرب.
وأمّا المعاجم وعلم الدلالة فتكشف عن ثراء اللسان العربيّ وقدرته على التوليد والاشتقاق واستيعاب كلّ جديد بطرق ذاتيّة توليديّة في اللغة ذاتها. فتجد تحت الجذر الواحد أحياناً عشرات الكلمات التي يتغيّر معناها بتغيّر الحروف الداخلة على الجذر أو يتغيّر معناها بتغيّر السياق الذي وجدت فيه، أو يتغيّر المعنى بتغيّر الضبط الصرفي للحروف ضمن البنية الصرفيّة الواحدة، كما يتغيّر معنى الفعل أو الاسم المشتقّ بحرف الجرّ المرتبط فيه؛ فرغب فيه، تختلف عن رغبه عنه، أو رغب به أو رعب إليه، ومثل هذا الفعل كثير في المعجم العربي الذي يستدعي كلّ تركيب معنىً مختلفاً.
وبقي الإملاء والخطّ، فهما حليتان كتابيّتان تقومان على الجمال والمنطق كذلك، وقد دخلت العربيّة بجماليّة الخطوط وتنوّعها إلى كلّيّات الفنّ التشكيلي ومدارسه، وقد مارس الخطّ العربي كثير من الفنّانين حتّى الأجانب منهم المستعربين أو المستشرقين.
وقد أتاحت هذه العبقريّة اللغوية للشعراء- على سبيل المثال- أن يتفنّنوا بالقول، فشاعت ظواهر أدبيّة ذات اتّصال لفظي لغوي نابع من صميم اللغة العربيّة؛ من مثل كتابة الشعر دون استخدام أفعال أو كتابة قصائد شعريّة بكلمات حروفها منقوطة وأخرى غير منقوطة، وتوظيف اللغة وحروفها في حساب الجمّل، وإخضاع ذلك لقوانين الشعر من خلال ما شاع بعمليّة التأريخ الشعري. كلّ تلك العمليّات الفنّيّة تكشف عن إبداعيّة الشاعر العربيّ وعبقريّة اللغة العربيّة وثرائها اللغوي، فلولا ما تتمتّع به اللغة العربيّة من قوانين وقواعد وتعدّد لفظي لما استطاع الشاعر القيام بكلّ تلك التجريبيّات الشعريّة التي توفَّر فيها عاملان مهمّان وهما: التعبير عن المعنى بوضوح، بكيفيّة فنّيّة لافتة للنظر، لا يستطيع القيام بها إلّا من كان مؤهّلاً لها وذا ميّزات خاصّة من سعة الاطّلاع وقوّة الموهبة في توظيف الأساليب المتعدّدة وارتباط كلّ أسلوب بمعنى معيّن، وظواهر التقديم والتأخير والحذف والإطناب والتكثيف والاقتصاد اللغوي. والانتباه إلى ما في اللغة وألفاظها وأصواتها من جرس موسيقي تم توظيفه لمصلحة الشعر والمعنى أيضاً.
لقد استطاع علماء العربيّة القدماء استغلال هذه المنطقيّة اللغويّة في كثير من جوانب الدرس اللغوي، ولعلّ أشهر هؤلاء العلماء الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كشفت عقليّته الاستثنائيّة عمّا في اللغة العربيّة من عبقريّة فوظّفها في نظام اخترعه يسمّى "نظام التقليبات"، فاستفاد منه في دراسته للعروض، فدرس العروض ضمن نظام الدوائر العروضيّة، ووظّفه في بناء معجم العين، أوّل معجم عربي استقصائي لألفاظ اللغة العربيّة، ورتّبه ترتيباً منطقيّاً على أساس صوتي، فرتّب حروف العربيّة حسب مخارجها مبتدئاً بأقصى الحروف، العين، بل ولاحظ الدرس اللغوي العربيّ العلاقة التي تحكم الأصوات معاً، على سبيل المثال العين والهمزة، ولأجل هذا التشابه المنطقيّ بالنطق، ومنطقة إنتاج الصوت كان الصوتان متشابهين في الرسم، هذا التشابه هو ما جعل الخليل بن أحمد ينحاز إلى العين وليس إلى الهمزة فيسمّي معجمه به، على الرغم من أنّه يعي أنّ الهمزة أبعد من العين في النطق، إلّا أنّ ضعفها الفيزيائي عند النطق بها جعله يحيّدها لصالح صوت أو حرف العين، وظلّ متتبّعاً هذه الحروف حتّى وصل إلى آخرها حسب الجهاز النطقي، وهو حرف الباء حيث كان آخر الأصوات في جهاز النطق الذي ابتدأ من الحلق وانتهى إلى الشفتين حيث الواو والميم والباء.
هذه العبقريّة اللغويّة جديرة بأنْ يلاحظها الدارسون والمعلّمون في المدارس، وفي الجامعات، حتّى تتمّ دراسة اللغة العربيّة ونشاطها الذهني؛ شعراً ونثراً، على أسس منطقيّة متّحدة مع منطق التذوّق السليم، فلا يجوز مثلاً الحكم بالسخف والضعف على تجارب شعراء العصر المملوكي، وعلى ما أنتجوه من شعر حافل بالصنعة الأدبيّة والبلاغيّة ووصمه بصفات الرداءة والمحدوديّة، بل لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تلك النماذج التي استثمرت تلك القوانين، شكّل بعضها نماذج أدبيّة عليا، وبعضها لم يحسن الشعراء استخدامها لخلل موجود في تركيبتهم اللغويّة وتواضع مواهبهم وقدراتهم الذهنيّة في التوظيف الأمثل لظواهر اللغة وقوانينها، وقد ركبوا مركباً صعباً لم يحسنوا الإبحار من خلاله في عباب اللغة العربيّة الزاخر، فإذا كان البحّار قليل الموهبة والخبرة، فهل نلوم البحر أم نلوم السالكين فيه بجهالة وهم غير مستعدّين؟
وعطفاً على بدء، فإنّ هذا النشاط الإبداعي البشري الذي يستثمر اللغة وقوانينها ليصنع عبقريّته الخاصّة التي تتوالد فيه ملامح عبقريّة جديدة للغة العربيّة ستكون عاملَ خلود للغة نفسها، إذ يكسبها هذا النشاط التجدّد والاستمرار، لأنّها لغة عصيّة على النسيان والإهمال، عدا ارتباطها بالقرآن الكريم والتراث العربيّ بمجمله الفقهي والفلسفي والتأليفي، فإنّ اللغة العربيّة تمتلك عناصر حيويّتها التي تؤهّلها لتعيش آماداً مديدة غير محصورة بالنصّ الديني وقدسيّته، إنّما للغة العربيّة قدرة على أن تعيش بأقصى حالات تميّزها دون أن تكون بحاجة إلى الاتّكاء على النصّ الديني، فاللغة هي الحاملة للنصّ الديني وتتجلّى النصوص بهذه اللغة، وليس العكس. فاللغة هي الأصل وفهم النصوص- دينيّة ودنيويّة- محكوم بقواعد اللغة وقوانينها المستقرّة قبل ولادة النصّ الديني وتخلّقه في سياقات اللغة المختلفة؛ ثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. وبسبب هذا القانون الذي يحكم النصّ الديني مع اللغة، كان من شروط المفسّر والفقيه والمجتهد أن يكون كلّ واحد منهم عالماً باللغة العربيّة، وليس ملمّاً بها فقط، أيْ أن يكون متبحّراً فيها واسع الاطّلاع على قوانينها وتاريخيّة الألفاظ واستقرارها ورحلتها بين العلوم وبين المعارف المتنوّعة.
ومن هذا المنظور الذي يشير إلى عبقريّة اللغة العربيّة وحيويّتها، فإنّ للغة العربيّة وثقافتها حضورها وتأثيرها في الكتّاب غير العرب من أمثال طاغور وبوشكين ومالارميه وقبلهم دانتي، وشعراء الترابودور في الأندلس وكثيرون غيرهم، إضافة إلى أنّ المعجم العالمي للغات الحيّة عبر العالم يختزن آلافاً، بل ربّما أكثر، من الكلمات ذات الأصول العربيّة، وأشارت إلى ذلك المستشرقة الألمانيّة زيغرد هونكيه ورصدت مجموعة من الكلمات العربيّة التي دخلت إلى معجم اللغة الألمانيّة، كما أنّ المعجم العربي يختزن كمّاً لا بأس به من الكلمات ذات الأصول غير العربيّة، قديماً وحديثاً من فارسيّة وسريانيّة وحبشيّة وإنجليزيّة وفرنسيّة وتركيّة، وتكمن عبقريّة اللغة العربيّة في هذا الجانب في أنّها ذات قدرة على إخضاع تلك المفردات إلى قوانينها بشكل تلقائي، بحيث لا تظهر أنّها غير عربيّة إلّا للباحثين والمدقّقين في علوم اللغة وفقهها. فصارت من اللغة العربيّة المستعملة بأريحيّة ألفاظ مثل كمبيوتر وتلفزيون وتلفون وفاكس وباص وترين وخاشوقة وغيرها، كما تصالحت اللغة في تاريخها القديم مع إستبرق وطازج وسجيل وإبريق والديباج والسجنجل.
وانطلاقاً من هذه العبقريّة المميّزة للغة العربيّة لا أرى حاجة ضرورية لأن نبحث عن بديل عربي لبعض تلك الأشياء وتلك المسمّيات وهاتيك المصطلحات، ألا يسعنا ويسع لغتنا ما وسع أجدادنا من العلماء والأدباء والمتحدّثين بها قديماً؟ فلنظلّ نستعملها كما هي بعد تعريبها وتوقيعها على الإيقاع العربي كالكلاسيكيّة والرومانسيّة والديمقراطيّة والطبوغرافيا والبيولوجيا وما شابهها، كما نستعمل- دون الشعور بالانزعاج- ألفاظاً كالبلوتوث والديسك والبنك، فلا ضير في استعمالها، وإدخالها في دراساتنا ومعاجمنا ولغتنا اليوميّة وحواراتنا ونصوصنا الأدبيّة، بعيداً عن الحذلقة والتمحّل في البحث عن ترجمة عربيّة لهذه الألفاظ، لأنّها أصبحت منّا ومن لغتنا بعد أن أخضعت للنظام العربي، بغضّ النظر عن أصولها في لغاتها الأصليّة. ولا خوف على لغة عريقة كاللغة العربيّة تتمتّع بهذه العبقريّة من أن تنحلّ وتتلاشى في اللغات الأخرى بفعل مجموعة من الكلمات المحدودة مجلوبة بفعل التطوّر من لغات أخرى، مهما كانت تلك اللغات قويّة بقوّة أهلها سياسيّاً واقتصاديّاً وعلميّاً، فاللغة العربيّة لها ما يؤهّلها لتستقبل المفردات اللغويّة المتنوّعة بحفاوة واحتفاء، لتدخلها في معجمها، وتضمّها إلى أحشائها، لأنّ في ذلك ثراء لها، ولأنّه متّسق مع قوانينها العبقريّة، ولا يؤدّي إلى تخريبها أو تشويهها بأيّ حال من الأحوال.
فلنترك اللغة تعيش حياتها كما هو مقدّر لها، فإنّ لديها القدرة الكافية على أنْ تظلّ حيّة وحيويّة إلى ما شاء الله لها أن تعيش. سواء أكانت من اللغات المعترف بها في الأمم المتّحدة أم لا، وسواء أوجد لها يوم عالمي للاحتفاء بها أمْ لم يوجد. فلا شيء في حياة العربي اليوم أقوى من لغته، فقد تسامت فوق الضعف السياسي والتبعيّة العلميّة وانهيار كلّ شيء عربي إلّا اللغة العربيّة التي ظلّت أكبر من كلّ ما عداها، ولعلّ هذا أيضاً سرّ من أسرارها، وجانب مخفيّ من جوانب عبقريّتها التي ربّما غفلنا عنه ولم نلتفت إليه إلّا قليلاً، لاسيّما في تدريس اللغة العربيّة.
وسوم: العدد 962