هل العرب متخلفون فعلاً؟
لا أدري من الذي يحاول دائماً ربط العرب بالتخلف! ربما يقف وراء هذا الربط زوراً وبهتاناً الأنظمة العربية الحاكمة لتبرير الحال البائس للدول العربية وتخلفها عن اللحاق بركب التقدم، وربما أيضاً لحرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الوضع العربي التعيس. هل العرب متخلفون فعلاً؟ والجواب على هذا السؤال التقليدي: بالطبع لا. ليسوا متخلفين أبداً، ولا ينقصهم الذكاء وحسن الإدارة والحكم الرشيد من المحيط إلى الخليج. هل يحتاج العرب إلى قيادات سياسية ناضجة وبارعة؟ أيضاً الجواب قطعاً لا، ففي كل بلد عربي تجد مئات السياسيين والمسؤولين والقادة البارعين والمذهلين جداً، وهم قادرون أن يقودوا الدولة والحكومات المتعاقبة بكل اقتدار لما يتمتعون به من حنكة وبراعة ونضج سياسي لا يقل جودة عن أفضل السياسيين في العالم.
ولطالما جلست لفترات طويلة مع قادة ومسؤولين وسياسيين عرب، فوجدتهم دهاة ومتمرسين ويعرفون من أين تؤكل الكتف، ويفهمون الواقعين العربي والدولي خير معرفة، وبعضهم يحمل شهادات علمية من الجامعات البريطانية التي تخرجت منها النخب السياسية البريطانية كأوكسفورد وكامبردج. وحتى بعض الجنرالات العرب فقد تعلموا وتخرجوا من كليات تاريخية عظيمة ككلية ساندهيرست البريطانية التي خرّجت خيرة القادة والجنرالات في أوروبا والعالم. وكنت على الدوام أتساءل وأنا أتناقش مع تلك العقول السياسية العربية الفذة: لماذا إذاً تحكمون بلداناً متخلفة وشعوباً بائسة؟ لماذا لم تستغلوا مواهبكم السياسية العظيمة في النهوض بدولكم وشعوبكم؟ كيف تقبلون على أنفسكم وأنتم المتخرجون من أعظم الجامعات والمعاهد الدولية أن لا تفعلوا شيئاً لتنمية بلدانكم وشعوبكم؟ وليس صحيحاً أن الحكام العرب يحيطون أنفسهم ببطانة ومستشارين متخلفين. لا أبداً، فلطالما قابلت خيرة المستشارين في العالم لهذا الحاكم أو ذاك.
ولو انتقلنا إلى المجال الاقتصادي والمالي لوجدت في بلادنا آلاف الخبراء والمختصين الماليين والاقتصاديين الذين أيضاً تخرجوا من أعظم الجامعات الغربية، لا بل إن بعضهم عمل في مؤسسات مالية واقتصادية دولية في أعلى وأكثر المناصب حساسية. فلماذا إذاً اقتصادنا منهار أو متخلف؟ لماذا نسبة النمو والتطور في بلادنا دائماً متدنية مقارنة حتى ببقية دول العالم الثالث؟
حتى على الصعيد الأمني والعسكري، لدينا ضباط من الطراز الرفيع، وبعضهم يحمل شهادات دكتوراه في العلوم الإنسانية. وقد اندهشت ذات مرة عندما أخبرني أحد كبار ضباط الأمن في سوريا أنه حاصل على الدكتوراه في نظرية المجتمع المفتوح لكارل بوبر. فلماذا إذاً أصبحت المؤسسات الأمنية والعسكرية في بلادنا رمزاً للوحشية والسفالة والقذارة؟
وفي المجال الطبي والعلمي: ألم ينافس الأطباء والعلماء العرب أفضل الأطباء في العالم في المستشفيات الغربية؟ ألم يتفوقوا حتى على الغربيين أنفسهم؟ ألا تعج المشافي الأوروبية والأمريكية بآلاف الأطباء العرب الذين أبدعوا في اختصاصاتهم المختلفة وأصبحوا أشهر من نار على علم في نيويورك ولندن وباريس وبرلين وغيرها؟ فلماذا فشلت الأنظمة العربية في بناء مستشفى متقدم يذهب إليه الحاكم وعلية القوم بدل الهرع إلى مستشفيات مايو كلينيك ولندن وباريس وفرانكفورت لإجراء هذه العملية أو تلك؟ لماذا تركتم أولئك الأطباء الأفذاذ يتركون بلدانهم ويذهبون للعمل في المشافي الغربية؟
هل ينقصنا مثقفون ومفكرون في العالم العربي، أم إن لدينا وفرة من المثقفين والعلماء الذين ينافسون خيرة العلماء في العالم؟ أين هؤلاء من هذا السقوط الاجتماعي والثقافي والعلمي الذي تعانيه مجتمعاتنا؟ ألم يحمل المفكرون والفلاسفة مشعل التقدم والتحرر في المجتمعات الغربية؟
وعن الإعلام والإعلاميين في العالم العربي حدث ولا حرج. لدينا إعلاميون وإعلاميات وكتاب وصحافيون من الطراز الأول ويمكن أن ينافسوا على مستوى عالمي لو أتيحت لهم الفرصة، ووصلت شهرتهم إلى العالم أجمع، فلماذا إذاً أصبح الإعلام العربي الرسمي رمزاً للابتذال والسقوط المهني ومثاراً للسخرية والتهكم؟
لا ينقصنا أي خبرات في العالم العربي إذاً لا في السياسة ولا في الاقتصاد والمال ولا في الطب والعلوم ولا في الفكر والثقافة ولا في الإعلام. فلماذا إذاً تقبع بلداننا في مؤخرة الأمم سياسياً واقتصادياً وعلمياً وفكرياً وإعلامياً طالما أن المواهب والخبرات والأطر متوفرة وبكثافة وفي كل الاختصاصات؟ هل لدينا مشكلة في استغلال وإدارة وتطوير الموارد البشرية؟ الجواب أيضاً لا، فلدينا من المدراء والعقول الإدارية التي تستطيع أن تدير أعظم المؤسسات والوزارات والجامعات. أين المشكلة إذاً؟ هل يا ترى مفروض على دولنا وحكامنا أن يحافظوا على منسوب التخلف في بلادنا رغماً عنهم بأوامر من سادة العالم؟ هل ممنوع علينا التقدم والتطور بأوامر خارجية، خاصة إذا ما علمنا أن الخبرات العربية تبدع خارج أوطانها وتحترق داخلها؟ هل وضع ضباع العالم والمتحكمون به شروطاً على القيادات العربية بأن تمنع أي نوع من النهضة في بلداننا وإلا عاقبوها؟ هل مازالت نصيحة معروف الرصافي قائمة حتى اليوم عندما قال:
«ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا»
هل ممنوع علينا التقدم حسب نصيحة الرصافي، أم إن المسألة بالدرجة الأولى مسألة أنظمة وحكام غير وطنيين؟ هل يا ترى فضلت الدول والحكومات والقيادات العربية الاستئثار بخيرات وثروات أوطانها وتركت مسألة التقدم والنهوض بالبلدان والشعوب جانباً؟ هل تكمن مشكلتنا في المسألة الوطنية حصراً، وأن العالم العربي لا تنقصه الخبرات والكفاءات بل تنقصه الوطنية الحقيقية التي تستثمر الطاقات لصالح الأوطان والشعوب؟ هل استثمر الساسة الأفذاذ والعلماء والمثقفون والمفكرون والمستشارون والجنرالات طاقاتهم وخبراتهم العظيمة بطرق شيطانية لمصالحهم الشخصية وتركوا بلادهم وشعوبهم نهباً للتخلف والانهيار؟ ليس لدينا أنظمة متخلفة أبداً، بل أنظمة داهية، لكنها تستخدم دهاءها بطريقة قذرة جداً للقمع والتنكيل والتلاعب بالشعوب وإخضاعها إما لصالح مشغليها في الخارج أو لصالح عصابات ومافيات داخلية شيطانية غير وطنية تستخدم كل أساليب المكر والخداع والدهاء والذكاء لنهب البلاد وسحق العباد من أجل مصالح بعيدة عن الوطن والوطنية بُعد الشمس عن الأرض.
نحن لسنا متخلفين أبداً، بل نملك أفضل العقول، لكنها للأسف مسخّرة إما لصالح ضباع الخارج أو كلاب الداخل.
وسوم: العدد 962