من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة-7
(الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)
مساقات
أشرنا في المقال السابق إلى أنَّه ليس من العجيب، ولا النادر، أن نقف على توارد الشعوب على بعض الحكايات الشَّعبيَّة. وقد يكون تشابه حكايتين ناتجًا عن اقتباس إحداهما عن الأخرى، وقد يكون لاقتباسهما معًا عن حكاية ثالثة. على أنَّه لا معلومات أمامنا يُستَند إليها للإجابة عن الأصل والتقليد في شأن الحكاية الأُسطوريَّة التي تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة»، الشبيهة بقِصَّة «سندريلا»، العالميَّة الانتشار. غير أنَّ دراسة نَصَّين مقارنَين بإمكانها أن تكشف الإجابة عن أصل الحكاية، ورَحِم النصِّ الأوَّل.
وإذْ نُقارب النصوص، محلَّ المقارنة، تَلفتنا تلك الملحوظات الواضحة الدِّلالة على أنَّ حكايتنا الأُسطوريَّة «مَيَّة ومَجَادَة» هي الأصل الأوَّل للأقاصيص العالمـيَّـة المختلفة، تحت عنوان: «سندريلا». وذلك بالنظر إلى القرائن الآتية:
1- يُلحَظ العُمق، والتركيب، والطُّول، في قِصَّة «مَيَّة ومَجَادَة»، مقارنةً بأقاصيص «سندريلا». وهو ما يُرجِّح أنَّها هي الأصل، وأنَّ تلك القصص الشبيهة إنَّما اشتُقَّت منها، متَّخِذةً جانبًا من جوانبها لتوظيفه لغرضٍ أخلاقيٍّ تعليمي. وبَدَهيٌّ أنَّ النصَّ الأطول، والأوفَى في تفاصيله ومضامينه، والأعقد تركيبًا، يحمل، بصفته تلك، الشهادة على ميلاد الأصل الأقدم، الذي حاكَتْه النصوص الأخرى، الأقلُّ منه في تلك الخصائص.
2- حكاية «مَيَّة ومَجَادَة» لا تبدو قِصَّةً للأطفال دون سِواهم، بل هي نَصٌّ حكائيٌّ طويلٌ يتوخَّى مخاطبةَ الكبار والصغار. على حين يبدو أنَّها اجتُزئت منه حكايات (سندريلا)، وسُخِّرت أقاصيصَ للأطفال.
3- إنَّ استناد حكاية «مَيَّة ومَجَادَة» على معطيات بيئيَّة واقعيَّة- تَرْدُفُها جوانب غرائبيَّة ميثولوجيَّة ذات صلة بثقافة تلك البيئة- يجعل في حُكم المتصوَّر أنها حكايةٌ ذاتُ أصلٍ تاريخيٍّ حقيقيٍّ، أُضيف إليه ما أُضيف من نسج الخيال. في حين أن أقاصيص (سندريلا) غارقة في اصطناعيَّاتها وخياليَّاتها ومجانساتها عالم الأطفال، وأحلامهم، حسب الثقافة الخاصَّة بكلِّ نموذج، حتى تبلورت أخيرًا في الثقافة الغربيَّة.
4- وجود أصداء حكاية «مَيَّة ومَجَادَة» في بعض تراث (الجزيرة العربيَّة) الشَّعبي، وبهذين الاسمَين نفسَيهما (مَيَّة ومَجَادَة)- وإنْ بتعديلٍ طفيفٍ- يؤكِّد أنَّها حكاية متوارثة، قديمة الجذور، متداولة بين مجتمعات هذه المنطقة. غير أنَّنا لم نقف على صيغتها الكاملة في غير التراث الشَّعبي في جبال (فَـيْفاء).
5- إن استخدام بعض الرموز الميثولوجيَّة في حكاية «مَيَّة ومَجَادَة»- وبخاصَّة (شجرة السِّدر)، و(عظام البقرة الغبراء)- بما تنطوي عليه تلك الرموز من آفاق دِلاليَّة أُسطوريَّة، كتَحوُّل مِشط أُمِّ (مَجَادَة) إلى سِدْرَة، ثمَّ تَحوُّل السِّدْرَةِ إلى أُمٍّ لمـَجَادَة، وكذا تحوُّل عظام بقرة الأُمِّ إلى أعوان لابنتها، ذلك كلّه يشي بأصالة هذه الحكاية ثقافيًّا وانتمائها بيئيًّا، وأنها نتاج مجتمعها، وبنتُ المخيال الشَّعبي في المكان والزمان، وليست بمجتلَبةٍ من خارجهما.
6- مهما يكن من أمرٍ، فإنَّه من المقطوع به- مَنْطِقًا وواقعًا- أنْ لا احتمال يُذكَر في أنْ تكون أُسطورة «مَيَّة ومَجَادَة» قد جاءت محاكاة لأقاصيص (سندريلا)؛ وذلك لأسباب موضوعيَّة: نصوصيَّة، وثقافيَّة، وتاريخيَّة. فإذا صيغ السؤال على النحو الآتي: تُرى أيّ نصَّين من النصوص يبدو أقرب إلى الأصل، أ حكاية بدائيَّة طويلة- مركَّبَة، ذات أسبابٍ اجتماعيَّة، في نسيج أقرب إلى المعقول والواقع، ذات نهايةٍ طبيعيَّةٍ متساوقةٍ مع بدايتها- أم قِصَّة مقتطفة، مجهولة البدء والمنتهى، محلَّاه بعناصر حضاريَّة: كفكرة تلك النَّعْل الخرافيَّة، والمجتمع المَلكي، وما إلى ذلك؟ ستبدو الإجابة: إنَّ الأقرب إلى التصوُّر أنْ يكون النصُّ الأوَّل هو الأصل، لا المحاكاة. ولو كان هو المحاكاة، لما غاب من عناصره أبرزُ المكوِّنات الرمزيَّة، في معظم «سندرلَّات العالم»، ونعني: فكرة «الحذاء»، و«القصر المَلكي»، و«زواج البطلة بأميرٍ أو مَلِك». فكيف يصحُّ افتراض أن أُسطورة «مَيَّة ومَجَادَة» متأثرةٌ بتلك القِصص النمطيَّة، ولم تسمع بأبرز ما فيها من عناصر، ظلَّت تتردَّد أصداؤها في «سندرلَّات العالَم»؟!
لكن ماذا عن النموذج الذي يُعْزَى إلى زمنٍ سحيقٍ، كالنموذج المِصْري؟
ذلك ما ستحاول مقالة الأسبوع المقبل الإجابة عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هذا المقال جزء سابع من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّم موجزها في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd
وسوم: العدد 963