غياب الفرد المواطن وخراب الأوطان

إن كنا نريد بناء دولة بالمفهوم الحديث ، فإنه يتوجب على أصحاب القرار ، عدم الاعتماد على المرتزقة ، ممن يحملون زورا صفة المواطن . وعليهم يقع واجب ترقية باقي أفراد الشعب ، ليصبحوا مواطنين ، وشركاء حقيقيين في الوطن . لهم وعليهم ما لبقية أبناء بلدهم ، هنا فقط يكون ولاؤهم للوطن دون سواه ، لا أن يكونوا مشاريع مرتزقة ، وفي مرحلة لاحقة سماسرة تحت تصرف من يدفع أكثر ، في صفقة بيع الأوطان . لقد تم اعتماد هذا النموذج ، في دولة قرطاج ، التي اعتمدت على جيش من المرتزقة . فكان خرابها في هذا النهج ، في حين نجحت روما في بناء دولة المواطنين ، فضمنت بذلك تفوقها في كل أرجاء العالم القديم . ولهذا فما من أحد يريد دولة مرتزقة ، يُرهن وجود الوطن بوجودهم . بل مواطنين وبذلك يكونوا صمام أمان ، يحول دون انفجار الدولة من الداخل ، ذلك أن دولة المرتزقة مصيرها الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي . لكونها دولة الأضداد وتحمل بين طيّاتها ، عوامل تفجرها وانشطارها . لانعدام أواصر التلاحم والتي هي بمثابة الخلايا الضامة والاسمنت المسلح ، الذي يضمن رص الصفوف وتقوية الجبهة الداخلية ، ولذلك فهي ( أواصر التلاحم ) بمثابة الدرع الذي تتكسر عليه ، مختلف أمواج الانشقاق والتصدع والتشظي ومهما كانت قوتها . إن دولة المرتزقة ، يحتكم القائمون على إدارة شؤونها . على الأهواء ، لا على الاحتكام لسلطة القوانين . وكذلك أمر مشايعيهم ، فكلهم تتحكم فيهم أخلاق اللذة والمنفعة ، ومنطق الغاية المبررة للوسيلة ، في أقصى درجات تجلياتها السلبية . لا أخلاق الواجب التي نادى بها كانط ، بعد الحاق الهزيمة بالمنظومة الأخلاقية الكنسية . أو غيرها من الأنساق الأخرى ، المنظمة للحياة الخاصة والعامة للشعوب والأفراد . ولهذا فدولة المرتزقة بنخبها وشعبها ، لهي على النقيض من الدولة الحديثة ، التي تسعي الشعوب ، لتجسيدها على أرض الواقع . وهما متضادتان كتضاد ، المدينة الفاضة والمدينة البائسة عند أفلاطون . ولذلك فدولة المرتزقة مصيرها الفشل والاندثار ، لأنها تصادم النواميس التي تحكم الكون والعمران .    

إن المرتزقة ليسوا فقط ، هؤلاء الذين يتم استجلابهم من الخارج . ولكنهم يتواجدون أيضا ، بين من يحملون بطاقات هوية ، وجوازات سفر هذا البلد أو ذاك ، ويتحدثون لسانه . ولكن مواطنتهم مزيفة ، إنهم وصوليون ومتسلقون ، وانتهازيون ، ومصلحيون . الوطن عندهم مجرد محطة للثراء ، بهدف الانتقال إلى وطن آخر . يشترون جنسيته ، بما نهبوه من وطنهم الأم . حتى أن البعض منهم بفساده ، وإتقانه فن التسلق والانتهازية ، وصل إلى مراكز حساسة في هذا البلد أو ذاك . فمنهم رؤساء الحكومات والوزراء ، ورؤساء الأحزاب والنواب . إنهم هنا وهناك في العالم المتخلف ، كما في العالم المتقدم . إنهم يتقنون فن الحديث ، وبه يعرضون الوطن في المزاد ، لبيعه لمن يدفع أكثر .

من سوء حظ بعض الأوطان ، أنها فشلت في انتاج الفرد المواطن ، ولكنها نجحت في انتاج فئة من الساكنة ، ما هم في حقيقة أمرهم سوى مرتزقة . لا أحد يلوم هذه الفئة لوحدها ، لكون بعض الدول فشلت في نقل قطاعات واسعة من مواطنيها من ضفة الساكن المرتزق ، إلى ضفة المواطن الحقيقي . ومتى نجحت في هذا الأمر ، تكون قد خطت أول خطوة ، لتلتحق بركب اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية .

إننا بحاجة إلى ثورة حقيقية ، تعيد بناء العقليات والذهنيات . وإن أمكن زرع منظومة قيم جديدة ، اسمنتها الحس والواجب الوطنيين ، والالتزام تجاه الوطن . بعيدا عن السموم التي تمطرنا بها السماء ، عبر مختلف الوسائل الاعلامية والوسائط الاجتماعية ، التي تلعب دورا رئيسيا ومحوريا ، في بناء وإعادة تشكيل ذهنياتنا وقناعاتنا ، وفق ما يخدم مصالح الآخر المتربص والطامح إلى الهيمنة ، والطامع في خيرات الأوطان . وهذا الأخير يدرك بأن زمن الغزو الخارجي بالجيوش الزاحفة لغرض الاجتياح والسيطرة المباشرة قد ولي ، ولهذا فقد ابتكر أساليبا جديدة ، ولعل أبرزها تجنيد مرتزقة من الداخل ، فهم أبناء جلدتنا ولذلك يسهل توظيفهم ، كحصان طروادة لهدّ ونخر الأوطان من الداخل  .

إن هؤلاء المرتزقة ممن يتخفون، وراء ستار المواطنة ، منهم كل العطب كما قال ابن باديس . ولقد عانت منهم الجزائر كثيرا ، ورأت على أيديهم الويلات ، خلال حقبة الليل الاستعماري الطويل . فكانوا عيونه وأذانه ، وأيديه التي يبطش بها . حتى أن فرنسا الاستعمارية كثيرا ما كانت تفتخر ، بأنها لم تحتل الجزائر بجيوشها . وإنما احتلها بعض الجزائريين لصالحها ، وهم من شيدوا ما يسمى زورا الجزائر الفرنسية . وكان هذا عبر مختلف الخدمات التي قدموها لها ، سواء من قبل هؤلاء الذين انضموا إلى فيالقها الغازية ، وكانوا سوط عذاب مسلطا على بني قومهم . أو ممن انخرطوا في سلك إدارتها ، كموظفي المكاتب العربية . ثم صادفناهم في مختلف فيالق الملتحقين بها ، خلال الثورة التحريرية الكبرى . وهؤلاء وآباؤهم ، هم من كانوا الحراس الأوفياء ، ( للجزائر الفرنسية ) . وضمنوا بقاءها ، لمدة 132 سنة . وكانوا على استعداد ليؤدوا نفس الدور ، هم وأبناؤهم وأحفادهم . لولا الثورة المباركة ، التي أنهت سيادة دولة الاحتلال وتوابعها .

والمرتزقة من أبناء هذه الدولة أو تلك ، وخاصة دول العالم المتخلف ، ممن لا تملك مناعة كافية ضد الاختراق الخارجي ، ممن يعيشون بين أفراد شعوبها . لهم وكما كان أسلافهم ، أداة طيعة في يد الاستعمار الجديد . فهم من يسخرون البلاد لخدمة السادة الجدد ، فيما وراء البحار . ولصالح شركاتهم ، العابرة للقارات . مقابل بعض الفتات الذي يُرمى لهم ، ثم منحهم ملجأ آمنا ، عندما تنتفي الحاجة إليهم ، وتنتهي خدماتهم ومدة صلاحيتهم . وهكذا يفعلون مع من يخلفونهم ، وفق ما تقتضيه دواعي المرحلة الجديدة .

علما بأنه متى أصبح في الدولة مرتزقة ، والبقية مجرد أقنان حتى وإن هم تلقوا وتقاضوا مرتبا شهريا . ولكنهم مبعدون عن إدارة الشأن العام ، ويتم اقصاؤهم وفرزهم وتهميشهم واستبعادهم بالقوة . أو يستثنون ظلما وعدوانا فلا يتمتعون ، بحقوق المواطنة المكفولة ، في كل القوانين السماوية والوضعية . وهذا ما حدث في العديد من بلدان العالم المتخلف ، في فترة ما بعد استقلالها . علما بأن البعض لا يزال يحن إلى ذلك الفرز والاقصاء الممنهج ، لا لشيء سوى لكونه يرى بأن مصالحه ، قد تضاءلت وانكمشت لصالح بقية أبناء شعبه ، وهو ما لا يتفهمه أو يتقبله .

إننا متى سرنا في هذا الطريق الخاطئ  ، نكون قد عبَّدنا الطريق أمام دولة الخراب ، التي لن يُسْتَـثْـنَى أحد من تذوق ثمار حصادها المرّ . خراب قد يأخذ شكل الحرب الأهلية ، أو تغول النزعات الانفصالية . كما هو الحال مع بعض أقاليم العراق ، التي طالبت بعض نخبها في فترة ما ، بضرورة الانفصال ، وتكوين دولة مستقلة ، أو الانضمام إلى إحدى دول الجوار . وهذا السناريو يمكن أن تتبناه أية منطقة في أية دولة ، ما لم يتم تفكيك الأسباب الداعية إلى هذه السردية والمنحى . نعم إنه يتحتم على النخبة الحاكمة والمثقفة ، أن تتصدي لكل ما يؤدي ، إلى أن يعانق أهل أية جهة من الوطن . ذلك الاحساس المقيت ، احساس الغربة داخل الوطن ، بدلا من أن يكونوا شركاء فيه ، ويشعرون بأنه ملكهم ، يفدونه بأرواحهم قبل أموالهم . كما يتوجب على النخب ، أن تثمن كل ما يبني وطنا للجميع ، وطن يشعر كل أفراده بأنه بيتهم وملكهم ، وطن يكون للجميع ، نصيب في تشييده والتمتع بخيراته .

أخيرا يمكن القول ، بأنه يتوجب على الجميع إحداث قطيعة حقيقية ، مع ممارسات الماضي ، التي جعلت من بعض المواطنين مرتزقة . ولأجل تحقيق هذه الغاية ، فإنه يتوجب استلهام فكرة نهاية التاريخ . لا كما هي عند كل ، من هيغل وماركس وفوكوياما . وإنما بمعنى نهاية حقبة وطي صفحة ، لحساب حقبة وصفحة جديدتين . واعتماد نموذج المجتمع المفتوح ، ولو بصوة نسبية لصالح أبناء القطر الواحد . وهنا يتوجب الحذر من المتسلقين والانتهازيين ، ممن يقدمون أنفسهم على أنهم رجال ونساء المرحلة الجديدة . فهؤلاء لا ولاء لهم إلا لمصالحهم ، فهم مرتزقة كل مرحلة ، ممن يرفعون شعار ، مات الملك عاش الملك . ولقد خبرت بعض المجتمعات كالجزائر هذه الفئة ، فأنبياء المرحلة الاشتراكية وسدنتها . هم من أصبحوا الأكثر تعصبا لاقتصاد السوق من مُنَظِّرِهِ سان سيمون ، في مرحلة ما بعد 1990 . وما الاشتراكية والرأسمالية عندهم ، إلا حصان طروادة ، يتخذونه مطية لنيل مبتغاهم .   

وسوم: العدد 965