قالت شهرزاد: «الدار بيوخدوها نار» رواية من الشيخ جرّاح

ولما كان العام الثالث والعشرون للعدوان الإسرائيليّ المتواصل واليوميّ؛ على عائلة صالحيّة، في حيّ الشيخ جرّاح، المثخن بالجراح؛ لطردها من بيتها، واقتلاعها من أرضها، بعد أن هجِّرت من بلدها، عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، وفي الثالثة فجراً من يوم التاسع عشر من كانون الثاني، من العام ألفين واثنين وعشرين؛ بلغني أيها الجمهور السعيد ذو الرأي الرشيد أن محمود صالحيّة قال: اقتحم داري أكثر من مائة جندي إسرائيليّ، مدجّج بالعتاد الحربيّ، لطردي وعائلتي من بيتي وأرضي.

منذ يومين، مرّا كسَنَتين؛ حاصر جيش الاحتلال بيتي، بعد أن دمَّروا مشتلي، الذي تعتاش منه أسرتي، وصادروا أرضي، وصمَّموا على اقتلاعي من منزلي.

ولأني كنت أفضِّل الموت على ترك الدار؛ صمّمت ألاّ أخرج من بيتي سوى لقبري؛ فوقفت على سطح منزلي، وصحت بأعلى صوتي: الدار بيوخدوها نار، وهدّدت بإحراق نفسي وكل أسرتي.

تضامن الأصدقاء معنا، ورابطوا في بيتنا، في محاولة لمنع الجيش، من تنفيذ قرار البلدية إخلاء الدار بعد رفضنا؛ لكنّ مائة من الجنود المدجّجين بالسلاح، والذين طوّقوا الدار؛ استغلّوا عتمة الليل، وبسرعة البرق اقتحموا البيت، وفور صراخ أحد المتضامنين منذراً بتسلّل الجنود؛ وقبل أن نتمكّن من تنفيذ تهديدنا انقضّوا علينا، وأشهروا مسدساتهم في جبهة كلِّ منا، واقتادوني ونصف أفراد عائلتي للاعتقال، ومعنا خمسة متضامنين يهود، وتركوا النصف الآخر من العائلة في العراء. ولم تتورَّع  شرطة الاحتلال الإسرائيليّ عن ضرب ثلاثة من أبناء العائلة، خلال إخلاء البيت، وداخل السيارة، وأثناء التحقيق.

وخلال ثلاث ساعات معدودات، وبعد أن أدارت البلدية الإسرائيليّة ظهرها لقرار لجنة التنظيم المحليّة؛ قرَّرت هدم البيت بكل وحشيّة، مع علمها أنه بيت تاريخيّ، ومبنى ثقافيّ.

أنشبت آليات التدمير أظافرها في لحم البيت، وهدمته في غمضة عين. انحنت غرف البيت وهي تحتضن الذكريات، وحصاد السنوات، والآمال والأحلام والضحكات، وتوجّعت الأقلام والكتب والدفاتر، وبكت النوافذ والأبواب والستائر، وتناثرت أوراق شهادات الميلاد، وشهادات ملكية الأرض في عين كارم، وأوراق ملكية الأرض في الشيخ جرّاح.

قاومتُ ومنذ ثلاث وعشرين سنة محاولة سلطات الاحتلال الإسرائيليّ إغرائي وأسرتي بالعروض الماليّة، وقاومتُ ادّعاءها بالملكيّة. بيَّنتُ خداعها، وفنَّدتُ حججها، وفضحتُ أكاذيبها، وأشهرتُ للمحكمة أوراق ملكيّة الأرض التي تبلغ ستة دونمات، والتي اشتراها والدي عام ألف وتسعمائة وسبع وستين. سلّمتني البلدية قراراً بالإخلاء مرّة ومرّتين، وأمهلتني حتى يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني من العام ألفين واثنين وعشرين، عرضت عليّ بعدها التمديد لمدة ثمانية شهور؛ علّني أقتنع بالتوقيع على ورقة أصبح بموجبها مستأجراً لبيتي. أيّ استخفاف بعقلي! صمَّمت ألاّ أوَقِّع على أية ورقة يعرضها الاحتلال عليّ بقلمي.

كشفتُ خطط جيش الاحتلال المبيّتة، ونواياه المخفيّة؛ بإقامة مئات الوحدات السكنيّة الاستيطانيّة، غير الشرعيّة. ورغم انفطار فؤادي، وحرقة صدري؛ لكني لن أفقد أملي، أو إيماني  بحقي، في العودة إلى بيتي في الشيخ جرّاح، وبيتي في عين كارم.  

اختنق صوت محمود طالبيّة يا سادة يا كرام، كان ما حدث لبيته وأرضه وعائلته فوق احتماله؛ فلم يستطع أن يقول المزيد.

بلغني أيها الجمهور السعيد ذو الرأي السديد أن أصل بيت محمود صالحيّة، الذي كان يقطنه وزوجته وأطفاله الخمسة، وشقيقته وأطفالها الأربعة، ووالدته، هو جزء من مبنى الحاج أمين الحسيني التاريخيّ، والذي يقع على بعد كيلو متر واحد، من أسوار البلدة القديمة، في مدينة القدس المحتلّة، والذي ظهر في وثائق محفوظة قبل مائة عام، في خرائط الانتداب البريطانيّ، ومن خلال الصور التي التقطها طيارون ألمان، خلال الحرب العالميّة الأولى.

أدارت بلديّة الاحتلال الإسرائيليّ ظهرها للقانون الدوليّ، الذي يفرض وجوب حماية التراث التاريخيّ والثقافيّ، للشعب الفلسطينيّ، والذي هو إرث حضاريّ إنسانيّ.

ولم تكن قصة مصادرة الأرض والبيت قصة عائلة محمود صالحيّة وحدها أيها الأفاضل.

هي قصة عائلات فلسطينيّة، قرّرت أن تقاوم خطة تهجيرها الهمجيّة؛ عائلات سالم والقاسم والكرد وإسكافي والجاعوني الأبيّة، وغيرها من ثمان وعشرين عائلة في حيّ الشيخ جرّاح، وست وثمانين عائلة في حيّ بطن الهوى في سلوان.

وهي قصة متضامنين أحرار، قرّروا أن يقفوا إلى جانب حقّ الشعب الفلسطيني التاريخيّ، وأن ينتصروا لعدالة القضيّة الفلسطينيّة، وأن يقاوموا مؤامرات التهويد والاستيطان والعنصريّة ووووووووووووووووووووووووووو وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.

وسوم: العدد 966