قصائد فدوى طوقان الخمس عن الفدائيين
الصلابة المتحدية من الخصائص البارزة بقوة في الشخصية الفلسطينية ، ويجلي الأدب الفلسطيني في فنونه ، وأولها الشعر ، هذه الخصيصة تجلية عريضة غزيرة نراها في قصائده التي جابهت النكبة فور حدوثها ، وأصر الشعراء الفلسطينيون فيها على رفضها ، وتوكيد حتمية العودة إلى مدن وقرى وحقول وطنهم الذي اغتصبه مستوطنون غرباء ، ومن أقوى الأصوات الشعرية التي عبرت عن ذلك وآمنت بحتمية العودة الشاعر هارون هاشم رشيد .
وسارت الأجيال التالية من الشعراء حتى اليوم في ذات الطريق ، بل اشتد رفضها للنكبة وضياع الوطن ، وصلب عنادها ، واستبعدت اليأس من العودة إليه ، وأبرزت سمات الصلابة الفلسطينية المتحدية التي هي الوسيلة لهذه العودة ، ولا مفاجأة في أن يعترف كثيرون من الإسرائيليين بهذه الصلابة ، فيقول الكاتب الإسرائيلي النزيه جدعون ليفي إن الإسرائيليين يصطدمون بأصعب شعب عرفه التاريخ ، وقبله تحدث يعقوب بيري رئيس الشاباك الأسبق البولندي الأصل عن دهشته من صلابة وعناد الفلسطينيات أثناء التحقيق معهن . ولم تضعف هذه الصلابة من هول هزيمة يونيو 1967 التي بدا أنها أقصت حلم العودة إلى خلفيات بعيدة مظلمة . وتجسدت هذه الصلابة في الفعل المقاوم بالسلاح للاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة ، وفي الأدب ، واندفع الشعر ، بحكم خصائصه الفنية التي تجعله أسرع الفنون الأدبية استجابة للأحداث ، للمقاومة . ومن أبرز الأصوات فيه محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم في الداخل المحتل ، وفدوى طوقان في نابلس في الضفة ، ولها قصائد كثيرة تجلي خصيصة الصلابة المتحدية في الشخصية الفلسطينية أرغمت موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي على القول لها حين التقاها إن قصيدة واحدة من قصائدها تصنع عشرة فدائيين . ولها خمس قصائد في ديوانها " الليل والفرسان " وسمتها ب " خمس أغنيات للفدائيين " ، وتقول في أولاها " مخاض " : " يا غدنا الفتي
خبر الجلاد
كيف تكون رعشة الميلاد
خبره كيف يولد الأقاح
من ألم الأرض ، وكيف يبعث الصباح
من وردة الدماء في الجراح . " ، والجلاد هنا هو العدو الصهيوني المحتل ، وفي وصفها لغد شعبها ب " الفتي " تفاؤل وثقة وأمل ، فمستقبل هذا الشعب في مستهله وفي عنفوانه ، ولم تحسمه النكبة واحتلال الضفة وغزة بعدها بالهزيمة الأبدية واليأس المغلق المنافذ . وفي القصيدة أو الأغنية الثانية تظهر صلابة الشعب الفلسطيني ، وأنه مصدر غناء شعرائه ، تقول :
" نأخذ أغنياتنا
من قلبك المعذب المقهور
وتحت غمرة القتام والديجور
نعجنها بالنور والبخور
والحب والنذور
ننفخ فيها قوة الصوان والصخور
ثم نردها لقلبك النقي
قلبك البلور
يا شعبنا المكافح الصبور ! " .
وفي القصيدة بيان لصلابة الشعراء الفلسطينيين التي هي جزء من صلابة شعبهم ، وهم مع ذلك بحكم دورهم في الذود بشعرهم عن شعبهم ووطنهم ينفخون في روحه قوة الصوان والصخور ، والصوان flint نوع من الصخور ، وأشدها صلابة ، وقد يبدو ذكر الشاعرة ل " الصخور " بعده اضطراريا استجابة للقافية إلا أنه قوى المعنى الذي تريده بعطف الكل ( الصخور ) على الجزء ( الصوان ) . وتلح في القصيدة على بيان صلابة شعبها ، فتصفه في ختامها ب " المكافح الصبور " . وفي القصيدة الثالثة " حين تنهمر الأنباء السيئة " تتمرد روح الشاعرة على ما في هذه الأنباء ، التي تشبهها بالصخور والأحجار السوداء رمادا ودخانا ، من دواعي القنوط والإحباط ، تقول : " فالنهر ماضٍ ، راكض إلى مصبه
وخلف منحنى الدروب
في رحابة المدى
ينتظر النهار
من أجلنا ينتظر النهار . " .
وفي القصيدة الرابعة " عاشق موته " ، ولننتبه إلى ما في عشق الموت من بيان لحب الاستشهاد عند الفلسطيني ذودا عن وطنه ووجوده الحر ، تخاطب شجر المرجان : " يا شجر المرجان عرشت غصونه
على جوانب الطريق
أعشق موتي في مواسم الفداء والعطاء
أعشق موتي تحت ظلك المضرج الغريق . " .
ظل هذا الشجر ليس ظلا عاديا ، إنه مضرج بدماء الجرحى والشهداء لكونه شجرا فلسطينيا .
والقصيدة الخامسة " كفاني أظل بحضنها " أصرح القصائد الخمس في بيان الصلة الوثقى بين الفلسطيني وأرضه حتى ليكتفي بنعمة الموت والدفن فيها لا بعيدا عنها مستهدفا بالموت والدفن الذوبان والانفناء في ترابها ، والانبعاث تاليا عشبا وزهرة ، تقول : " كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبا على أرضها
وأبعث زهرة
تعبث بها كف طفل نمته بلادي . " .
وذكر الطفل امتداد فني متفائل بالمستقبل ل " غدنا الفتي " في القصيدة الأولى ، وللنهار الذي ينتظر الشعب الفلسطيني في القصيدة الثالثة . هي الروح الفلسطينية الصلبة العنيدة التي لا تكسرها عواصف النوائب مهما عنفت وتمادى هبوبها .
وكثيرة هي القصائد والأغاني الفلسطينية التي مجدت تضحية الفدائيين وبسالتهم ، واسمهم في ذاته ثري بالدلالة على التضحية والبسالة . وللشاعر الفلسطيني الراحل محمد حسيب القاضي قصائد وأغان شعبية جمة في هذا المنحى وفرت زادا معنويا محفزا لهذه التضحية وهذه البسالة ، وكثف تأثيرها في وجدان الشعب الفلسطيني أنها كانت تبث من الإذاعات الفلسطينية . ومن شعر الصبا الباكر لكاتب هذه السطور قصيدة " فدائي فلسطيني " ، ونصها :
فدائيٌ وأغنيتي بلادي يا هوى قلبي
ويا أنشودة خضراء تحدوني على دربي
فدائيٌ ورشاشي طريق النصر في كفي
يمزق وهم أعدائي وما قالوه عن ضعفي
هناك ، هناك في حقلي وحيث تدفقُ الجدولْ
وحيث أصاخت الدنيا لقصة حبي الأول
سأبني بيت أحلامي وأزرع فيه زيتونهْ
توسوس كلما مرت رياح الليل محزونهْ
لتحكي عن سنين التيه ، عن أشواك مأساتي
وكيف حملت في المنفى جبالا من جراحاتي
ولم أحنِ الجبين وإن تحدى الكل آمالي
وحطوا اليأس في دربي جبالا فوق أجبال
لأن محبة الزيتون في قلبي تعزيني
لأني ، أقولها فخرا ، فدائي فلسطيني .
هي الروح الفلسطينية المقدودة من الصوان ، والمشحونة بنار الإيمان ونوره بحتمية استعادة الوطن المغتصب ، روح وإيمان تتوارثهما جينات الأجيال الفلسطينية على توالي الحوادث والأزمان ، ويجليها أبدا شعراء الشعب الفلسطيني وأدباؤه وكتابه في كل ما يكتبون .
وسوم: العدد 967