تداعيات مشاكل التواصل
لا مندوحة للإنسان وهو كائن عاقل ناطق من التواصل مع غيره نطقا أو رسما أو إشارة ... أو كل ما يمكن أن يسد مسد التواصل . والتواصل من الوصل والوصال في اللسان العربي وهو نقيض التصارم ، وقد يحصل يقع بين شخصين اثنين أو أكثر ، وله عدة أشكال منها أن يصل الإنسان غيره بزور يكون وئاما واتفاقا أو بكلام أو بغير ذلك مما يحقق التواصل . والصيغة اللغوية للفظة " تواصل " وهي " تفاعل " تفيد المشاركة .
وأول تواصل في تاريخ البشرية والخاص بالبشر تحديدا كان بين الخالق سبحانه وتعالى وبين نبي الله آدم وزوجه حواء عليهما السلام في الجنة كما حكى ذلك الذكر الحيكم . وكان التوصل بين أول زوجين بشريين في الجنة ، وبعد الهبوط منها إلى الأرض ، ومنهما تعلمت ذرتهما التواصل . وقد قص علينا القرآن الكريم مقطعا من تواصل كان بين ولدي آدم عليه السلام هابيل وقابيل ، وكانت مع شديد الأسف نهايته مفجعة ،لأنه لم يكن تواصلا موفقا .
وتواصل نعمة تواصل الخالق سبحانه وتعالى مع الخلق كانت إما عن طريق الوحي أو الكلام المباشر أو بواسطة الملك الكريم كما ورد ذلك في كتاب الله عز وجل . وندب الله تعالى المرسلين عليهم الصلاة والسلام للتواصل مع أقوامهم بألسنتهم لتبليغهم رسالاته التي فيها ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم .
ويمكن حصر التواصل بين بني البشر في نوعين اثنين لا ثالث لهما وهما : إما تواصل إيجابي أو تواصل سلبي ، ولكل واحد منهما تداعيات . وتكاد كفة التواصل السلبي ترجح بكفة التواصل الإيجابي ، لهذا السبب تكررت قصص مثل قصة التواصل السلبي بين ابني آدم عليه السلام في تاريخ البشرية من المرات ما لا يحصي عددها إلا الله عز وجل . ولو كان التواصل الإيجابي هو الغالب عند بني الإنسان لما عرفت البشرية كل المآسي التي كابدتها ولا زالت تكابدها ، وستبقى كذلك إلى نهاية العالم ، وقيام الساعة .
ولما كانت تداعيات التواصل الإيجابي محمودة ، سوف نركز في هذا المقال على التواصل السلبي لما لتداعياته من عواقب وخيمة . ومعلوم أن التواصل السلبي يعود على المتواصلين به بالسوء والشر الذي قد يلحق أحد طرفي هذا التواصل أو هما معا سواء كانوا أفراد أو كانوا جماعات . والتواصل السلبي يعرف من خلال تداعياته، ذلك أن كل العداوات والصراعات والحروب التي عرفتها البشرية منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا ، والتي ستستمر مستقبلا مع شديد الأسف هي أدلة على سوء التواصل الذي يدل على الانحراف بهذه اللفظة التي أصلها الوئام والتفاهم إلى نقيضها الذي هو التصارم .
ومن نماذج تعثر التواصل بين الناس اختلاف أداة التواصل بين المتواصلين ، وكنموذج لهذا النوع من التواصل نسوق حكاية العربي الذي وفد من شمال شبه جزيرة العرب على ملك حميري في جنوبها ، وكان هذا الأخير يتخذ مجلسه في مكان عال ، فلما مثل بين يديه أمره بالجلوس ، ولكن باللغة الحميرية ، وهي عربية أهل جنوب شبه الجزيرة ،وهي تختلف عن عربية شمالها فقال له : " ثب " وهي باللغة الحميرية " اجلس " إلا أن معناها في عربية الشمال هو " اقفز " ولم يجد العربي المسكين بدا من القفز حتى لا يعتبر عاصيا لأمر ملك واجب الطاعة، فقز من حيث كان يجلس الملك ،فاندقّت قدماه ، واستغرب الملك منه ذلك حتى أخبر بأن الأمر يتعلق بسوء تواصل مرده اختلاف اللسان .
ولا زال نموذج هذا العربي البائس يتكرر في دنيا الناس ، وسيبقى كذلك إلى أخر يوم من حياتهم ، ولكنهم لم يستفيدوا من مأساة هذا المسكين ، ولا زال اختلاف الألسنة بين البشر يتسبب في أنواع من المآسي منها على سبيل المثال ما يقال عن ظرف إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان حيث يزعم البعض أن الرد على مطالبة الأمريكان اليابانيين بالاستسلام اعتراه سوء تواصل سببه عدم اتقان الطرف الأمريكي اللغة اليابانية حيث أساء فهم الرد الياباني، وظن أنهم قد رفضوا الاستسلام . ومهما يكن من أمر صحة هذه الرواية ، فإنها وإن لم تصح فهي محتمل الوقوع ، وفيها عبرة ودليل على خطورة تداعيات مشاكل التواصل.
وليس اختلاف الألسنة هو السبب الوحيد في سوء التواصل بل قد يكون اللسان واحدا بين طرفي التواصل أو أطرافه ،ومع ذلك يتعثر التواصل لأسباب أخرى منها اختلاف مستويات الناس المعرفية ، واختلاف طرق وأساليب تفكيرهم وفهمهم ، واختلاف طباعهم وأمزجتهم ... إلى غير ذلك من الأسباب المختلفة والمتعددة . ومعلوم أن سوء الفهم يكون سببا رئيسيا في تعثر التواصل بحيث يكون قصد أحد طرفي التواصل شيئا ، وفهم الطرف الآخر له شيئا آخر ، وهو ما يتحول إلى سوء ظن تكون له عواقب وخيمة ، ومن نماذج ذلك أن يكون قصد طرف ما مدح الطرف الآخر بكلام ،فيخونه التعبير ، ويفهم الطرف الآخر منه أنه ذم أو قدح ، وقد يكون المشكل في سوء فهم الطرف الثاني وسببه إما عجز في الفهم أو سوء ظن منه إذا لم يخن التعبير الطرف الأول . وقد يكون قصد طرف ما الإساءة إلى طرف آخر، فيصوغ كلاما صياغة يكون ظاهرها مدح وباطنها ذم وهجاء كما هوالشأن بالنسبة لما حصل بين الشاعر الهجّاء الحطيئة ، والشاعر الزبرقان حيث تظاهر الأول بمدح الثاني في بيته الشعري المشهور الذي يقول فيه :
وقد شكا الزبرقان هجو الحطيئة له إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وحاول هذا الأخير أن يطيّب خاطره ، وأن يقنعه بأنه قد مدحه ، ولم يهجه ، وشاور في هذا الأمر الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه، فرجّح هذا الأخير كفة الذم على كفة المدح في هذا البيت، فجرّ ذلك على الحطيئة عقوبة الحبس في عقر حفرة مظلمة ،ثم صار يستعطف عمر رضي الله عنه بذكر معاناة صغار خلفه وراءهم بقوله :
فعفا عنه الخليفة الراشد ، واشترى منه أعراض المسلمين بمال دفعه له حتى لا يهجو أحدا بشعره .
وما حصل من الحطيئة كثير في دنيا الناس بحيث يحكم التواصل بينهم سوء النية وسوء الطوية ، ويكون باطن القصد من التواصل غير ظاهره ، وقد ينتبه المستهدف بسوء هذا التواصل كما انتبه الزبرقان إلى ما استهدفه به الحطيئة ، وقد يقصر فهمه عن ذلك ، فلا يدرك ما لحق به من سوء يظنه خيرا ، ولا يدرك أمره سوى من كانت له خبرة حسان بين ثابت ، وفطنة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
ومن أسباب تعثر التواصل اختلاف الثقافات والعادات والطباع ، فقد يحصل سوء التواصل بين أطراف في بعض الأمور تكون على طرفي نقيض ثقافيا أو عادة أو طبعا ، ويفضي ذلك إلى سوء ظن لا داعي له ولا تكون له تداعيات لو حسن التواصل ، وفهمت الفوارق بين الثقافات والعادات والطباع . و قد يحدث من مثل هذا ما يدعو إلى الضحك عند من يعرف سبب سوء التواصل بين الأطراف المختلفة اثقافة وعادة وطبعا .
ومن أسباب سوء التواصل أيضا اختلاف الجنسين بحيث لا يراعي كل واحد منهما اختلاف الآخر عنه ، ويكون التواصل بينهما على أساس الجهل بهذا الاختلاف ، فيحصل سوء التفاهم ، وتكون له تداعيات . ومن هذا النوع ما يعد تحرشا وما هو بتحرش ، وإنما هو سوء تواصل . وقد يكون التحرش مبطنا فيكشف بالطريقة الزبرقانية ـ نسبة إلى الشاعر الزبرقان ـ ، وكثيرا ما لا يكشف ، فيتم تبريره ، وظاهره عكس باطنه ، وقد يطرب هذا التحرش من يستهدف به وهو يظنه مودة ، وله عذره في ذلك ،لأنه لا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور سوى الله عز وجل .
ومن أسباب سوء التواصل اختلاف الأعمار بين الأجيال بحيث يتعثر التواصل بينها ،ويكون مرد ذلك عامل السن ، ومن نماذجه ما يعتبره الشيوخ سوء أدب صادر عن شباب يتواصلون معهم ، والأمر غير ذلك بالنسبة للشباب لأنهم يقعون في خطإ التواصل مع الشيب ب اعتماد نفس الطريقة التي يتواصلون بها مع بعضهم البعض ،وهو ما يوقعهم معهم في مشاكل .
ومن أسباب سواء التواصل أيضا اختلاف المراكز الاجتماعية والمناصب والوظائف والرتب بحيث يكون التواصل بين الرئيس والمرؤوس مختلا حيث يعتقد الرئيس دائما أنه محق فيما يقول أو فيما يأمر لأنه يكون تحت تأثير انفصام مزمن بين شخصه كإنسان ،وبين مكانته أو منصبه ،فيغلّب شخصية المسؤول على شخصية الإنسان في كل أحواله حتى في بيته وبين أهله ، وهو ما يجعل التواصل متعثرا بينه وبين محيطه وبينه وبين من تربطه بهم مهام أو علاقات . ولا يخلو إنسان مهما كان من هذه العقدة المزمنة إلا من رحم الله عز وجل والتي لا تغادره ، وقد تلازمه ما بعد فترة معاشه أو تقاعده أو تغيير مهامه ومناصبه .ومما يلازم هذه العقدة الكبرياء بحيث لا يستسيغ الرئيس ما قد يوجه إليه من ملاحظات من مرؤوسيه ، ولا يملك الشجاعة الأدبية ليقر لهم بوجاهة ملاحظاتهم كما فعل الفاروق رضي الله عنه الذي اشتهر عنه قوله : " الحمد الذي أصابت امرأة وأخطأ عمر " في قصته مع المرأة التي راجعته في قرار تحديد قيمة صداق النساء ، وأفحمته بشاهد من القرآن الكريم .
وغالبا ما يصعب ويشق على المسؤول أو الرئيس التراجع والاعتراف والإقرار بالخطإ أو التقصير أمام من هو دون مرتبته مع وجود الدليل والحجة القائمة عليه لأن أنانيته تأبى عليه ذلك، فيتمادى في تزكية نفسه ، ويرى في التراجع معرة لا تناسب مكانته ، وهو بذلك في الحقيقة يسقط في المعرة ، ويكون ذلك مدمرا للتواصل بينه وبين محيطه ، وتكون لذلك تداعيات أقلها أن يجلب إلى نفسه بغضا مجانيا في محيطه هو في غنى عنه ، وقد يعرقل مسؤوليته ورئاسته ، وقد يكون سببا مباشرا في فقدانها .
وأخيرا لا بد أن نقر ونعترف أننا نعاني من مشاكل سوء التواصل الذي له عدة تجليات في حياتنا اليومية لكننا نغفل عن ذلك أو نتغافل، وهو ليس بالأمر الهيّن . ولو تنبهنا إلى خطورته لتخلصنا من العديد من المشاكل والعراقيل ، ولما خسرنا كثيرا من العلاقات التي هي كنوز لا تقدر بثمن .
وسوم: العدد 969